في كل مرة يُذكر فيها المجتمع المدني لا يمكن استبعاد التفكير في القوة الناعمة وحاجتها إلى مجتمع مدني صحيح ومتوازن، وهذا العام (2022) هو عام المجتمع المدني في مصر، والذي بحثت مكتبة الإسكندرية أخيرًا في تجاربه المتعددة من ماض يصل إلى مائتي عام، إلى زمننا الراهن وآفاق المستقبل، وربطته بالتنمية والشراكة في الجمهورية الجديدة، وفي الأساس كان إعلان عام 2022 مبادرة للرئيس السيسي.
والمجتمع المدني - كما اعتبره كبير الباحثين بمكتبة الإسكندرية د. سامح فوزي - هو في أحد أهم تجلياته قوة ناعمة ومخزن للقيم والمواطنة.
والقوة الناعمة أحد المهام الحضارية الاستثنائية التي لا يمكن إسناد إنتاجها إلى جهة محددة، وتظل مسئولية جماعية، سواء قام بها فرد أو مؤسسة، وهي إذ تتحرك وتزدهر تصنع حالة ثقافية إبداعية تنتشر في محيط لا متناهٍ على المستويين الجغرافي والزمني، وربما لم يكن أصحاب الإنجاز الأوائل في قصة القوة الناعمة في مصر يدركون بشكل مباشر أنهم يقومون بهذا الدور، لكنهم كأفراد اشتغلوا على أنفسهم، لإحياء قيم الحرية والوطنية واكتساب المعارف وتمكين الحداثة، وصادفوا في نفس الوقت الدعم من أفراد ومؤسسات في المجتمع تؤمن بالأفكار ذاتها وتشجيع عليها.
وإذا كان محمد علي باشا في وقت ما قد أوفد البعثات إلى أوروبا وزاد الخديو إسماعيل من طابعها العلمي، فإن ما اكتسبه العائدون ونقلوه إلى البلاد ساهم في نشر المدارس والمعارف والعلوم الجديدة، واستمر أمر البعثات العلمية إلى أوروبا والتي التحق بها كل اسم لامع في مصر، أو الغالبية منهم، طوال القرن العشرين.
ولم يكن الأفراد بعيدين عن ذلك مثل الأميرة فاطمة إسماعيل التي تبرعت لبناء جامعة القاهرة، والأمير يوسف كمال الذي كان ينفق بسخاء على العمل العام وتنمية الصعيد وأسس كلية الفنون الجميلة التي تخرجت فيها أسماء لامعة في الفن التشكيلي، بينما وقبل جائزة نوبل بخمسة وأربعين عامًا فاز نجيب محفوظ بجائزة السيدة قوت القلوب الدمرداشية عن روايته "رادوبيس"، وقيمتها عشرون جنيهًا، وهي ابنة العائلة التي تبرعت لتأسيس مستشفى الدمرداش، وكانت قد تبرعت بأرض جامعة عين شمس.
وربما برز دور الدولة أكثر من الأفراد في الخمسينيات والستينيات بدعم القوة الناعمة وتحقيق انسيابية في انتشارها، واندفاع في إنتاجها ودعمها، على قاعدة الوعي بتأثيرها الثقافي والسياسي أيضًا.
واجتمع نتاج مصر الليبرالية ومصر ما بعد ثورة يوليو ليشكلا جناحين قويين للقوة الناعمة حلقا بها بعيدًا، في الفن والتعليم والحداثة، مكنا لها في العالم المحيط بنا عربيًا وإفريقيا وآسيويا، فكان المعلم المصري والطبيب والموسيقي والسينمائي المصري، وكانت مقاعد جامعة القاهرة حلمًا، وحياة الانفتاح والترفيه، ونماذج الأدب والنقد، إلى آخر ما يمكن أن تطاله عين الآخر المحبة من مصر.
هذه الأدوات بحاجة إلى الشحذ والتطوير عن طريق مجتمع مدني يدعم المبادرات والممارسات، وكان لافتًا ما ذهب إليه مدير مكتبة الإسكندرية د. أحمد زايد من أنه لا يسعى إلى مجتمع مدني تسيطر عليه الحكومة أو رجال المال والأعمال، إنما مجتمع ثالث يقف ما بين سياسة الحكومة وإمكانات الأفراد، هو بشكل ما الضلع الثالث في تكوين العمران، كجسر يملأ الفراغ بين الحكومة والمواطنين.
سمعت في مؤتمر مكتبة الإسكندرية الكثير من صفات المجتمع المدني وقدراته التي هي أسرع في الوصول إلى الناس من الحكومة عند د. طارق توفيق نائب وزير الصحة والسكان لشئون السكان، وأكثر نجاحًا إذا ما ارتبط الهدف بتغيير القيم، لكن هناك تحديات مثل الإيمان بالعمل المشترك بين كافة صور المجتمع المدني، وليس العمل المنفرد أو الجزر المنعزلة، وتدريب الكوادر، والتحدي الأكبر وهو المتطوعون.
وإذا كان المجتمع المدني يستطيع تقديم خدماته في المجتمع في مجالات الصحة والتعليم والتوعية والأنشطة الأهلية، كقوة صلبة في خدمة المواطن، فإن الجانب الثقافي يظل عصب القوة الناعمة، وهو الجانب الغارق في النخبوية الشديدة كما لاحظ د. سعيد المصري الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للثقافة، وعرض بالأرقام المثيرة للاهتمام كيف نسي المجتمع المدني الشأن الثقافي، بينما الثقافة تشكل عصب قوة مصر الناعمة، فقد أعطى المبدعون لمصر دورها في العالم العربي، فقد كان يمكن لمنظمات المجتمع المدني الثقافي لعب دور حيوي في اكتشاف ورعاية الموهبة والإبداع والابتكار، وهذه هي مصادر الإبداع في النشر والفنون، وبالتالي دعم الاقتصاد.
إذن عند د. المصري المجتمع الثقافي يمتلك أدوات مهمة وفاعلة في تكوين الإنسان في مصر وصناعة رؤيته للعالم وتنمية الوجدان وتعزيز التسامح والانفتاح، كما أنه في ظل الفنون والآداب لا يمكن أن تكون هناك بيئة حاضنة للإرهاب والتطرف، وفي مصر حاليًا 250 جمعية ثقافية وفقًا لبيانات 2019 وهي تشكل أقل من نصف في المائة من الجمعيات في مصر، لكنها هشة، بمعنى أنها تعاني من نقص الموارد المالية وعدم الاستقرار المؤسسي، في الوقت الذي تنخفض قيمة العمل التطوعي باعتباره وصمة أو شغل من لا عمل له، هذه الجمعيات كنادي القصة وأتيليه القاهرة والإسكندرية بحاجة إلى دعم سواء من الحكومة أو الأفراد ممن يدعمون المجتمع المدني.