لا يقترب الموت أبدًا ممن احتضن حلمه وحافظ عليه "وناضل" ضد كل الإحباطات، ولفظ ورفض الإغراءات بأنواعها وغزل من عمره حوائط تمنع اغتيال حلمه ومبادئه وتسعى لتحويلها لحقائق ولو بعد حين؛ ليصبح "حدوتة" تنعش من يعرفها وتشجعه ليكون مثلها..
من هؤلاء إدوارد سعيد الذي يعد من أهم عشرة مفكرين تأثيرًا في القرن العشرين وكيف لا يكون كذلك؟ ومسيرة حياته حافلة بالثقافة النزيهة لا تخضع لما يخالف الحق والحقائق، ولا تلونها بهوى المثقف أو الموجات الرائجة في عصره؛ كما يفعل أدعياء الثقافة في كل زمان ومكان وأصحاب الأصوات العالية والتي "قد" تنطلي على الكثيرين خضوعًا للصوت العالي وللإلحاح الإعلامي وإظهارهم كنجوم للثقافة وهم أبعد ما يكون عنها..
لذا نحتفي بإدوارد سعيد المولود في القدس في أسرة مسيحية في 1 نوفمبر عام 1935، والذي غادر جسده الحياة في 25 سبتمبر 2005 وبقيت إسهاماته الثقافية "وستبقى" لصدقها ولتميزها ولجديته وعلمه المتفرد أيضًا، وهو القائل "على المثقف تحمل تمثيل الحقيقة بأقصى ما يستطيع من طاقة على السماح لراعي أو سلطة بتوجيهه".
تعلم في القاهرة؛ حيث انتقل والده إليها ثم عادت أسرته للقدس في عام 1947 وبعدها بعام عاد للقاهرة والتحق بكلية فيكتوريا، ثم غادر لأمريكا وواصل دراسته بها، وتخرج من جامعة برنستون 1957، وحصل على الماجستير من هارفارد 1960 ومن نفس الجامعة حصل على الدكتوراه عام 1964، وعمل أستاذًا للأدب الإنجليزي بجامعة كولومبيا..
أجاد اللغات الإنجليزية والفرنسية والعربية وعرف الإسبانية واللاتينية والألمانية والإيطالية وتخصص في الأدب الإنجليزي، صدر له 30 كتابًا تمت ترجمة معظمها للعديد من اللغات.
تم انتخابه عضوًا في المجلس الوطني الفلسطيني بصفة مستقل؛ فلم ينضم لأي كيان وكان انضمامه انتماءً لهويته الفلسطينية.
عاش إدوارد حياته بين القدس والقاهرة ولبنان والولايات المتحدة الأمريكية، وشهدت حياته تغييرات كبيرة بهذه التنقلات التي أجبرته على تغيير الدراسة والأصحاب والجيران واللغة؛ يقول عنها إنها شكلت جزءًا عضويًا من عملية نموه واكتساب هويته وتكوين وعيه لنفسه وللآخرين.
شكلت هزيمة 1967 تغييرًا جذريًا في حياته "وأيقظت" هويته الفلسطينية العربية والتي كانت تزرعها بعقله ووجدانه أمه، بينما كان والده الحاصل على الجنسية الأمريكية ينصحه "بالابتعاد" عن السياسة وبأن لا فائدة فقد ضاعت فلسطين "ليتفرغ" لبناء مستقبله..
قال الإنسان الذي لم يعد له وطن يتخذ من الكتابة وطنًا يقيم فيه وهو ما فعله فاحتضن الكتابة كوطن، ولم يقترف إثم خيانتها وهل يخون الشريف وطنه؟!
كان يمكنه البقاء بالغرب بعقله وبوجدانه "ووأد" جذوره وجني المكاسب بأنواعها؛ ولكنه اختار الانتصار لهويته وسعى لكشف الحقائق أمام العالم..
فضح أساليب الاستعمار ومحاولات تشويه المسلمين والعرب من قبل معظم المستشرقين، وكشف بجرأة وبأدلة واقعية ملموسة "تعمد" الإعلام الغربي تقديم صورة سلبية وكاذبة ومشوهة عن العرب عامة والإسلام خاصة؛ لرسم صورة ذهنية سيئة عنهم في عقول المشاهدين بالغرب لدعم مصالحهم، واستمرار تضليل الرأي العام الغربي وتحريضهم ضد المسلمين وفلسطين، وفند مزاعم كتاب وأدباء غربيين ضد الإسلام وكشف بشجاعة أكذوبة الاستقلال التام للإعلام الأمريكي، وأكد أنه "يخضع" لاتجاهات الممولين ومصالحهم.
أثبت أن الإعلام الغربي لا يريد أن يعرف جمهوره أن الإسلام دين ذو مبادئ أخلاقية ويؤيد الإسلام المساواة بين النساء والرجال، ويدعو للعدل وللإنصاف ودين روحي عميق..
قدم بشجاعة وبمثابرة كل ما يثبت الحق الفلسطيني وبذل جهدًا مميزًا ومتواصلًا طيلة حياته في الدفاع عن فلسطين كقضية شعب وهوية وثقافة، وفند كل ما يناهضها بالأدلة التاريخية، ولم يهادن أبدًا ورفض اتفاقية أوسلو وأكد أنها تضيع الحق الفلسطيني.
جندت إسرائيل الكثيرين للرد عليه لما امتلكه من مكانة ثقافية وفكرية يحترمها الكثيرون في العالم، وحاولت تقليل تأثير مواقفه وكتبه بلا جدوى، عانى في ابتعاده عن وطنه، وقال عن المنفى إنه أكثر الأقدار مدعاة للكآبة..
من كتبه؛ "خيانة المثقفين"، "القلم والسيف"، "السلطة والسياسة"، "مسألة فلسطين تأملات من المنفى المثقف والسلطة"، و"الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق"..
أما كتابه "خارج المكان" فهو سيرة ذاتية كتبها في خمس سنوات، بدأ في كتابتها بعد اكتشافه إصابته بالسرطان عام 1999.. ونال عنها عدة جوائز؛ كشف فيها عن طفولته، وتنقلاته بين البلدان، وكيف تغيرت الخريطة السياسية بهذه البلدان، وأطلق عليها اسم "خارج المكان"، في إشارة لتمسكه بهويته وبفلسطين رغم ابتعاده بالمكان عنها.
ذهب إدوارد أول مرة للقدس بعد مغادرته لها عام 1948 إثر اكتشاف مرضه بالسرطان؛ ورغب في رؤية مسكنه الذي غادره، بحث عنه طويلًا، وكما توقع وجد صهاينة يسكنونه ويديرونه كملجأ مسيحي؛ ولم يدخله..
عمل كناقد موسيقي وله إسهامات متميزة بها فقد كان الاجتهاد والإخلاص مفتاح شخصيته، ولذا نجح في كل إبداعاته وكتاباته ودراساته.
أثبت إدوارد سعيد كذب الزعم بأن الظروف تفرض على الإنسان ما يخالف قناعاته؛ فكل ما حوله كان "يشجعه" على المضي بحياته والإنشغال بها؛ ولكنه احتضن هويته وناضل بها ودافع عنها؛ وأيقن أن الحياة ستنتهي في لحظة ويغادرها الجميع، ويتبقى بعد الرحيل ما كان نقيًا ومحترمًا وغير قابل للبيع أو للمساومة.