Close ad
2-11-2022 | 12:25

لم تترك القوى الكبرى موضعًا للتنافس فيما بينها دون استغلاله وتوظيفه على الوجه الأكمل والأمثل، لبلوغ هدف بسط سيطرتها وهيمنتها السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية في مختلف بقاع العالم، وجعل الآخرين مجرد توابع تدور في فلكها السريع، وتشترط على تابعيها عدم تجاوز الخطوط المرسومة لهم سلفًا من قبلها لأدوارها، وألا تنازعها وتزعجها بمزاحمتها في مواطن تفردها وتميزها الدقيقة، أو قل مواطن بعينها تحتكرها دون شريك، لا سيما التكنولوجية والعلمية منها التي تضعها في مكانة مرموقة يحسدها عليها المحيطون بها من الأصدقاء قبل الأعداء.

لذلك، تبقى الجوانب المرتبطة بالتطور التكنولوجي والعلوم ساحة الصراع الأشرس والأكثر ضراوة بين الكبار، ويزداد عنفوانه ومداه إن كان الغرض النهائي من ورائه كسر احتكار الهيمنة عليها، وهو ما تحاوله الصين بدأب وعزيمة فولاذية جامحة في مجال الفضاء والسماوات المفتوحة، ولا تبخل بضخ مليارات الدولارات للاستثمار فيه، من أجل الاحتفاظ بوجود دائم في الفضاء، وتحدوها آمال عريضة وشاسعة لتحقيق "حلم السماوات" بفضل غزارة إنتاجها في جميع المناحي الفضائية.

ففي ٣١ أكتوبر الماضي أطلقت الصين الجزء الثالث والرئيسي من محطة الفضاء "تيانجونج"، ومعناها بالصينية قصر السماء، وستضم أنظمة دعم للحياة وأماكن للمعيشة، ومصادر طاقة ودفع خاصة بها، وتسير في هذا المشروع معتمدة فيه اعتمادًا كاملا على الذات من الألف للياء، بعدما تم استبعادها من برنامج محطة الفضاء الدولية التي تتشارك فيها الولايات المتحدة وروسيا وكندا واليابان وبعض البلدان الأوروبية.

الذريعة المعلنة التي اتكأت عليها أمريكا لحرمان بكين من الوجود بالمحطة الدولية كانت خشية واشنطن من أن البرنامج الفضائي الصيني يديره الحزب الشيوعي، وهي حجة واهية، للتغطية على السبب الحقيقي والمنحصر في حجب التكنولوجيا المتقدمة عن الصينيين، ومنعهم من إحراز مزيد من التقدم والطفرات والقفزات في هذا المضمار الذي يعد من المجالات التي تحظى برعاية فائقة على المستوى الوطني، ويلتف حوله الصينيون لإنجازه لتصبح بلدهم ثالث دولة بعد أمريكا وروسيا ترسل رائدًا إلى الفضاء الرحب بمفردها.

ويضع الأمريكيون في اعتباراتهم وحساباتهم ومخططاتهم المستقبلية أن الصين ليست منافسًا شرسًا لا يشق له غبار في النواحي الاقتصادية والمالية والعسكرية وحسب، وإنما أيضًا في القطاع التكنولوجي والفضائي، رغم التضييق عليها فيه بكل السبل والوسائل، وقطعت أشواطًا كبيرة ولافتة فيه، ولم ترفع راية الاستسلام البيضاء بل على العكس، إذ اعتبرت محاصرتها هدية سماوية لتفجير وحشد الطاقات والكفاءات المحلية وشيدت على أكتافهم وبسواعدهم الفتية برنامجها الفضائي الطموح والواعد.

ويعمل في مشروعات الفضاء الصينية نحو ٣٠٠ ألف شخص، أي ما يعادل ١٨ ضعف عدد العاملين في وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا"، وأرسلت ١٣ رائدًا للفضاء الخارجي، وخلال السنوات العشر الماضية أطلقت ما يزيد على ٢٠٠ صاروخ، وتعتزم بحلول ٢٠٣٠ إرسال أول روادها إلى سطح القمر، ومجسات لجمع عينات من كوكبي المريخ والمشترى، ونجحت في إنزال روبوت على "الكوكب الأحمر"، وتخطط العام المقبل لإطلاق أول تلسكوب مسح فضائي كبير.

والعمل في هذا البرنامج ليس مقصورًا ومغلقًا على الحكومة الصينية وحدها، حيث فتحت الأبواب للقطاع الخاص للتعاون معها، وتستثمر الشركات الصينية فيه قرابة 1.5 مليار دولار سنويًا، وتحرص وسائل الإعلام الصينية على نشر الأخبار التي تظهر إشراك الجميع في هذا التطور المستمر، وأنهم شركاء أصلاء فيما يتحقق وينجز، وهنا تستشف وصفة الإنجاز المستندة إلى ثلاثة أضلاع، هي التخطيط المتقن، والمساندة الشعبية الجارفة، وتوافر الموارد اللازمة والمطلوبة للتمويل.

وكل من تابع المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني الذي عقد الشهر الماضي من المحللين والمعنيين بالشئون الآسيوية لاحظوا أن الرئيس "شي جين بينغ" كرر كلمة التكنولوجيا ٤٠ مرة خلال خطابه أمام الحاضرين، ووعد بأن يكون النصر حليفًا لبلاده في معركة الوسائل التكنولوجية الرئيسية، وشدد مرات عديدة على أهمية الابتكار والاكتفاء الذاتي تكنولوجيًا.

ولأول مرة يضيف الحزب بندًا جديدًا إلى قائمة أولوياته، وهو تدشين قوة كبيرة مدعومة من التكنولوجيا والعلم والتعليم، وتلجأ الصين في هذا الإطار إلى تبني أقوى شكل من أشكال النزعة القومية التكنولوجية، أو ما يسمى "نهج الأمة بالكامل"، والذي يتم بموجبه توجيه كافة موارد الدولة لإنجاز هدف إستراتيجي، وعلى سبيل المثال تم تخصيص نحو ١٣٧ مليار دولار لمجال أشباه الموصلات، وتجهيز مئات المعامل لإجراء أبحاث متطورة تتعلق به.

وللإيضاح فإن أشباه الموصلات من المجالات الحيوية والمهمة في "حرب التكنولوجيا"، وتشير إحصائيات عام ٢٠٢١ إلى أن ٣٠٪ من عائدات الشركات الأمريكية العاملة فيها من مبيعاتها للصين، التي استوردت شرائح إلكترونية تتخطى قيمتها ٤٠٠ مليار دولار، وتجتهد بكين للاعتماد على المنتجين المحليين لها، بحيث تلبي ٧٠٪ من احتياجات السوق المحلي بقدوم عام ٢٠٢٥.

إذن فإن كلمة السر السحرية سواء في الحالة الصينية، أو غيرها من بلاد الله، هي الاكتفاء الذاتي في كل ما يتصل بالأمور والقطاعات المؤثرة والفارقة في حياة المواطنين، فالصين لم تكن لقمة سائغة في فم أمريكا ولا أوروبا، وتجاهد لإيجاد حلول محلية تقيها شرور الضغوط الخارجية، وعمليات لي الذراع الرامية لتحطيم الإرادة الوطنية في الانطلاق على طريق التقدم والتحديث.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: