دون فهم للتكرار وعلى مدار سنوات يحدث من آن لآخر أن تحدث مشكلة في هاتفي يكون حلها الوحيد أن يعود كما جاء أول مرة، بلا أسماء؛ بلا صور؛ بلا تفاصيل ولا ذكريات.
الاختلاف هو أنني تلك المرة الأخيرة تقبلت ذلك برحابة شديدة، لم أشعر بكل مشاعر الضيق التي عشتها في المرات الماضية، لم تنتابني حسرة الماضي، وتفاصيل ما ضاع، لا أستطيع أن أقول اعتدت الفقدان للأشياء والأشخاص، فكل هؤلاء الذين اعتادوا الفقدان يشعرون بنغزة في القلب عند كل مرة كانوا يقسمون قبلها ألف قسم على التعود، وتنسى عند نقاط الودع قلوبهم كل الوعود التي قطعوها أمام أنفسهم، طبيعة بشرية إن راوغها أحدهم في مرة ونجح، لا يضمن نجاحه في مراوغاته الأتية.
سأعاود بناء ذكريات جديدة، لكن ربما لن أنسى ما فات؛ مؤكد لن أنسى ما فات، سأبحث جاهدًا عن بقايا وبعض مما مضى، أتمسك بكل تفاصيل ربما تركتها في زوايا أخرى، وبعض ذكرياتنا يكون فقداننا لها ليس فيما يتعلق بالذاكرة بل فيما يتعلق بوجودها أمام أعيننا فقط، فنحفظها في قلوبنا وكل تفاصيل أرواحنا، وفي هذا بعض من الأذى، نطوي صفحات الأيام وتبقى تفاصيلها مفتوحة في قلوبنا، نفارق وجود أحدهم ولا يفارق وجوده في قلوبنا، نغادر بعض الأماكن ولا تغادرنا.
وكم من ذكريات عصية؛ التصقت بكل تفصيلة في عقولنا، بكل تفصيلة في الشوارع والأحاديث، والأحلام، والأيام، نتعايش، نتخطى، وللأيام حكمة وتأثير ودواء من حدة المتاعب وأسى الأمس، وبعض الذكريات تكون كل زادنا من الرحلة، كل ما تبقى، يكون إجمالي أملنا عند نقطة ما فقط شيء نتذكره بعد انتهاء رحلة نعرف جيدًا أنها لن تستمر طويلاً، شيئًا نتذكره ونبتسم رغم ما نحمله من حزن خفي.
الذكريات جزء من دائرة الحياة المنطقية، جزء من مسارات حياتنا، نحاول جاهدين ألا نزيد على أنفسنا منها ما يرهقنا، ولا ننجو بهذا دائمًا، ومن قابلته في طريق عابر ربما يحمل حكاية لم تعبر من قلبه بسهولة، وفي أعين الناس الشغف، والحزن، والألم، والانتصار، وبقايا الانهزام، وفي كل قلب ذكرى، تفاصيل عن الأمس؛ عن الرحلة والطريق.
تعلمنا الذكريات بمنطقية أكثر، ندرك بها بإثباتات إضافية معنى المراحل، تترك بنا علامات ودلالات، قبل أن نتجه تدريجيًا إلى حيز التأقلم، والتعلم مما فات؛ ولدى البعض قد يعودأحيانًا كل شيء ببساطة شديدة إلى الذاكرة عند نقطة ما.
نحن دائمًا في خوف مستمر، خوف غير مُعلن، خوف لن ينتهي إلا مع انتهاء وجودنا، خوف من انفلات ما نريد من أيادينا، من كل ما يحمله مرور السنين، من الفقدان، والغياب، والمواقف التي تبقى رغم الزمن في قلوبنا، لتشكل مع كل تجعيدة في وجوهنا حكاية، قصة كنا نتمنى لو كملت، حكايات كنّا نهرب منها، أمنيات تاهت مننا، نعيد الشريط، ونقف بتعجب؛ نكتشف كم الأشياء والناس التي خسرناها في الرحلة، نبتسم بنبض متوتر ونكمل الطريق.
تعبر كل الأيام مُسرعة، ويعبر من فيها، تنقضي الحكايات، ولا ينقضي ما كان فيها، نفقد كل يوم بعض من تفاصيلنا الدقيقة، من أحلامنا، وحكاياتنا، وربما بعض من ذكرياتنا، ننسى يومًا ونتناسى الآخر، ويمر كل شيء.