إن المصريين الذي ثاروا لمرتين قبل حوالي عقد من الزمان، في يناير/ كانون الثاني 2011 ويونيو/ حزيران 2013، خرجوا إلى الشارع بأهداف شبه واضحة في المرة الأولى وهدف معلوم تمامًا في المرة الثانية، في الأولى كانت الحتمية التاريخية لإزاحة نظام تكلس وانفصل تمامًا عن الواقع وإلى اليوم ندفع ضريبة تخاذله عن قرارات كان يجب أن تتخذ، وفي الثانية كانت الضرورة الحضارية لإنقاذ قوميتنا وعقاب جماعة إرهابية امتطتْ المطالب العادلة للجماهير في محاولة لاختطاف وطن بأسره داخل حظيرة مكتب الإرشاد، فكان الخروج العظيم لتصحيح المسار. لكن ماذا عن بعض الحملات التي تطفو بين حين وآخر فوق السطح من أجل "التثوير الاصطناعي" في استغلال لثقل تبعات بناء الوطن على كاهل أبنائه؟
ببعض هدوء، ماذا لو عدنا إلى الوراء حوالي قرنين من الزمان؟ قبيل تولي مُحمد علي باشا حكم مصر بسبع سنوات، حين جاء بونابرت بمدافعه وعلمائه، فما كان من بعض سكان القاهرة - والفرنسي فوق عتب المدينة - إلا تلاوة "البخاري" كسبيل لصده عن المدينة! هل تصورت الآن مقدار الهوة الحضارية التي كانت بيننا والآخر! ثم خرجت الحملة الفرنسية ودار كل ما دار وتولى مُحمد علي باشا حكم البلاد بإرادة شعبية، واعتزم بناء كل شيء من جديد، لكن أولًا: هل ما زلت تتذكر التعبير الشائع عن "محمد علي" في كتب التاريخ؟ نعم إجابة صحيحة، إنه "مؤسس مصر الحديثة" في كل المجالات، بدءًا من تكوين الجيش مرورًا بالارتقاء بالزراعة والصناعة والنظام الصحي، وصولًا إلى إرسال أبناء المصريين في بعثات إلى الخارج. السؤال: هل كان كل المصريين حقبتئذ على دراية بكل منجزات الوالي وسعداء بلا ضجر؟ الإجابة: بالطبع لا، لأن الوالي كان يلقمهم دواءً مرًا بغية الشفاء من كل أمراض نقص الحضارة التي لحقت بالجسد المصري في آخر عقود المماليك وكل قرون ظلام العثمانيين. وكطبيعة بشرية، وفي بعض الأحيان قد لا تدرك بعض الأمم من الأصل أنها مريضة، ولا يروق لهم أبدًا مر الدواء. لقد تحمل المصريون في الحقبة العلوية من أجل بناء هذا البلد ما لم يتحمله غيرهم، ولم ينصف مُحمد علي في تلك الحقبة إلا مَن جاءوا بعدهم. وأنا هنا لست بصدد تشبيه بين حال مصر 1805 ومصر 2014، أو عقد مقارنة بين محمد علي باشا والرئيس عبدالفتاح السيسي، لكن تحمل التبعات ومرارة الدواء من أجل التحديث في كلا العصرين رُبما حال بين الإدراك الكامل لبعض المصريين والتقييم العادل لحقيقة ما كان يُشيد كل يوم فوق الأرض.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، هل منا مَن كان يعتقد أن الدولة المصرية بأعوام وجيرة ستتمكن من القضاء على "فيروس سي" الذي كان ينهش أكباد المحروسة لعقود طوال، وتوفير علاجه للجميع بلا استثناء؟! هل بيننا من كان يصدق أن العشوائيات التي كانت تحدق بنا من كل اتجاه سيتم استئصالها، وأن قاطنيها سينتقلون للعيش بكرامة إنسانية في مجتمعات راقية؟! هل منا مَن كفت دهشته حتى الآن حيال شبكات الجسور والطرق والمواصلات التي أعادت رسم الجمهورية من جديد، من بعد سنين كان مجرد افتتاح محور مروري واحد فيها حدثًا فريدًا تُنتج من أجله الأوبريتات؟! أليس ما يتحقق من إنجاز يومي ومدروس لرقيقي الحال من أهلنا في كفور مصر ونجوعها بموجب مبادرة "حياة كريمة" هو خطوات رئيسة وهائلة على درب العدالة الاجتماعية التي هتفنا من أجلها في يناير/ كانون الثاني 2011؟! مَن منا قبل أعوام قليلة دار بخلده أن أي شاب سيكون باستطاعته تملك شقة محترمة عبر صندوق الإسكان الاجتماعي وتقسيط ثمنها عبر أعوام كثيرة؟! نحن بالكاد وسط العاصمة كنا نأمل في كهرباء بلا انقطاع! كل هذا فقط على سبيل العصف الذهني العابر، وأنا هنا لست في معرض تقرير أو تكرار ما أُنجز في مجالات الصناعة والزراعة والصحة وإعادة تسليح الجيش المصري وسط إقليم ملتهب، لكن الأهم التذكير بأن هذا كله لم يكن مجانًا، فلكل داء دواء، ولكل إصلاح وتحديث أثمان تدفع. علينا أيضًا ألا ننسى أن كل هذا الاستثمار في الإنسان المصري وعمرانه لم يكن يجري في ظل شهر للعسل، بل تحت القصف! هذه الدولة كان يُنجز كل ما فيها وجيشنا يحارب عبر حدودنا الأربعة، جماعات إرهابية مدعمة بتسليح وتمويل غير منقطعين، كل هذا فضلًا عن جائحة وبائية اجتاحت العالم وأودت باقتصاده، وحرب روسية أوكرانية تعود بأوروبا الآن إلى العصر الجليدي! لولا جسارة القرارات التي اتخذها الرئيس عبدالفتاح السيسي في السنوات الفائتة، ما استطاعت الدولة مقاومة كل الآثار الكوكبية للجائحة أو الحرب.
في النهاية، المصريون كشعب نهري، مجبولون على التدبر والتروي، يدركون -رغم وطأة الظرف الاقتصادي- أن الوجوه التي تمارس التثوير الاصطناعي وتزين لهم النزول للشارع، لا يمكن أن تضمر لنا خيرًا! هؤلاء الخونة الذين لا يقتاتون طعام فطورهم بالصباح إلا عقب دفع ضباط الاستخبارات الأجنبية لهم مقابل ما اقترفوه في حق وطنهم بالمواقع وعلى شاشات الخارج في المساء، هؤلاء لا يستقيم معهم أبدًا دعوة المصريين إلى نفع! أذناب الجماعة الإرهابية لا تريد مصر إلا خرابة كبرى حتى تتمكن من العودة.
للتواصل مع الكاتب عبر تويتر: twitter.com/sheriefsaid