Close ad
24-10-2022 | 14:06

هناك شخصيات لا تحتاج إلى جهد أو شرح مستفيض لتقديمها وتعريف الناس بها، بفضل ما أنجزته بعرقها ومثابرتها في مجال تخصصها، ويكفي فقط ذكر اسمها الأول، ليعرف محدثك عمَن تتكلم ويتجاوب ويتفاعل معك بيسر فيما يتعلق بها من موضوعات ومناقشات، ومن بين هذه الشخصيات اللامعة والمؤثرة "بيل جيتس" مؤسس شركة "ميكروسوفت" ذائعة الصيت وصاحبة المكانة الرفيعة، المتربع على قمة نادي أثرياء العالم، منذ سنوات، والمتبرع السخي بمليارات الدولارات، لإيجاد حلول لمشكلات وأمراض وأوبئة تنغص حياة ملايين البشر.

وفي تقديري المتواضع فإن "جيتس" يُعد من الوجوه المضيئة والمشرقة للرأسمالية الأمريكية - المعروفة بتوحشها وتجبرها وانتزاع العاطفة والرأفة من قلبها - لأنه يبحث دومًا عبر مؤسسته الخيرية عما يخفف الأعباء الثقيلة عن عاتق غير القادرين في بقاع الأرض المترامية الأطراف، ويدخل البهجة والراحة لنفوسهم المتعبة والمنهكة، ولذلك فإن اختياره للوجهة الذاهبة إليها تبرعاته يتم بدقة وذكاء، ويحمل بين طياته دروسًا مجانية للراغبين في الاستفادة منها، وانتقاء المناسب منها للبيئة المحلية لتطبيقه.

هذه المرة باغتنا "جيتس" بتخصيص مليار دولار بالتمام والكمال، لتطوير تدريس مادة الرياضيات – سيدة العلوم – في المدارس الأمريكية، فما الغرض من وراء هذه الخطوة اللافتة؟

غرضها النبيل ينحصر في مساعدة الطلاب على النجاح فيها والحصول على وظائف برواتب مجزية، فهو مقتنع كل الاقتناع بوجود علاقة شرطية بين إتقان مهارات الرياضيات والنجاح المهني، وأن أمريكا تواجه أزمة رهيبة وخطيرة في "الرياضيات"، لا سيما بالمرحلة الثانوية.

ولم يجد "جيتس" غضاضة في الإفصاح عن معضلة محورية يئن منها النظام التعليمي الأمريكي، الذي ينظر إليه خارج الولايات المتحدة على أنه من النماذج المبهرة، وتأمل دول عديدة في أن تحذو حذوه والاقتداء به، فهو لم يضع رأسه في رمال الإنكار، ويعتبر أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأن مَن يقول بغير ذلك يصنف من المغرضين والمعرقلين، فالصراحة أقصر الطرق للعلاج وإصلاح الموازين المختلة في كل المجالات والقطاعات، وفي غيابها تتراكم وتتكاثر الهموم، إلى أن تصبح وحشًا مخيفًا وعملاقًا يلتهم في طريقه الكثير من المقدرات والوقت الثمين، ويعرقل أي تقدم مأمول.

إن نظرة "جيتس" معتمدة على أن التعليم له أولوية قصوى على المستويين الحكومي والخاص، وأن الجميع شركاء وعليهم دور يتعين الاضطلاع به كما ينبغي، والاستماع للآراء والانتقادات وليس التقليل من شأنها وجدواها، وأن لرجال الأْعمال المقتدرين نصيبًا وافرًا من واجب ومسئولية مواجهة مواضع الخلل فيه، وإحجامهم عن القيام بهذا الدور جريمة لا تغتفر في حق المجتمع الذي منحهم ومكنهم من تكوين ثروات طائلة، فهو من عينة رجال الأعمال الملتحمين بواقع دولهم، ويشعر أن بعنقه دينًا عليه الوفاء به دون كلل ولا تبرم.

وحينما يُخصص ملياراته لجوانب مثل هذه فإنه يفعلها عن طيب خاطر من باب الاقتناع بالمبدأ السالف الإشارة إليه، وليس من قبيل المن و"الشو الإعلامي"، ولو تأمل المراقب الإحصائيات والبيانات الحديثة المنشورة مثلا عن أن الأمريكيين يحتلون المركز الأول في الفوز بجوائز نوبل بفروعها المختلفة، حيث بلغ عددهم ٤٠٠ من بين نحو ٩٠٠ فائز بها، منذ تدشينها عام ١٩٠١، أغلبهم متخصصون في الفيزياء، لقال إنهم بارعون ومتفوقون بلا شك في "سيدة العلوم".

غير أن الماثل للعيان على الأرض يشير إلى عكس النتيجة السابقة، فقد أظهرت نتائج الاختبارات الصادرة من قبل مؤسسة أمريكية اسمها "التقييم الوطني للتقدم التعليمي" في سبتمبر الماضي انخفاضًا في قدرات القراءة والرياضيات للأطفال في سن التاسعة، جراء إغلاق الفصول الدراسية لمدة طويلة بالعامين المنصرمين، بسبب تفشي جائحة "كورونا"، وهذا الانخفاض غير المسبوق يعد الأول على الإطلاق في تاريخ التقييم الوطني الممتد لخمسة عقود خلت، وكشف أيضًا عن تراجع نتائج اختبارات الرياضيات ٤ أضعاف المسجل سابقًا.

في حين، أشارت دراسة أجراها معهد "بروكنجز" إلى أن كورونا أدت لانخفاض بنسبة ١٦٪ في أعداد خريجي المدارس الثانوية الذين يلتحقون بالكليات التي تستغرق الدراسة فيها عامين، و٦٪ بالكليات التي تستغرق ٤ أعوام، فما بالك إذا علمت بالخسائر المترتبة على هذا الانخفاض، فالأسر التي يقودها خريجون جامعيون كانت تجني ضعف ما تجنيه الأسر التي يكونها أشخاص غير حاصلين على شهادات جامعية، وهو ما يؤدي لخسارة أفدح في المواهب والنمو الاقتصادي المستقبلي، وما يتبعها من مشكلات اجتماعية وأمنية تهدد السلم والأمان، ولعل تلك الأرقام خير توضيح لربط " جيتس" بين مهارات الرياضيات والتفوق المهني ورغد العيش، لتجنيب المجتمع الكثير من الموبقات والانحرافات.

وهكذا يجب أن يكون الدور المبتغى لرجال الأعمال الوطنيين المكترثين والمهمومين بحاضر ومستقبل وطنهم، ويعلمون بما لا يدع مجالًا للشك أن التعليم هو التاج الذهبي الذي يزين رؤوس الشعوب والأمم وتتفاخر به بين أقرانها ومنافسيها، لأنه القاطرة التي تجر بقية عربات قطار التقدم، وتحافظ على قوة وثبات انطلاقها للأمام، لحين وصولها سالمة لمحطتها النهائية مصطحبة معها الخير والنماء والحياة الهانئة، والسعادة المرجوة للمواطنين.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: