راديو الاهرام

النغمة الصحيحة..

23-10-2022 | 16:40

 القوة الناعمة هي مجموعة وسائل في يد الدولة تحقق بها الأهداف والتأثير في الدول الأخرى عن طريق الجذب والإقناع وبطرق غير مباشرة، وربما استطاعت دول كثيرة تحقيقها بشكل ملموس لا يحتاج إلى كثير من الأدلة، مثل الولايات المتحدة الأمريكية ومصر وتركيا وغيرها.

وغالبًا ما تكون الذخيرة الثقافية وأنماط الحياة أساسية في وسائل القوة الناعمة، كالأفلام الأمريكية وكوكاكولا وماكدونالدز، وشعراء وكتاب مصر وأفلامها وأغانيها، وكالمسلسلات التركية التي صالحت في وقت قريب الشعوب العربية التي لم تر في قرون مضت سوى الاحتلال العثماني البغيض والمتخلف.

وتحتاج الدول التي لا يمكن لها العزلة إلى القوة الناعمة، مثل مصر، والتي لا ينبغي لها أن تتوانى وتتغافل عن الرؤية والتخطيط لإنتاجها ودعمها ونشرها وإزالة كل الصور السلبية التي يمكن أن تغيبها أو تعطلها، ويمدنا تاريخنا القريب بصور إيجابية أتاحت لقوانا الناعمة التألق وبالتالي التمدد والانتشار، حتى قبل أن يصيغ أحد مفهوم أو تعريف لهذه القوة.

وقبل مائة عام مثلا، كان على العالم الإسلامي أن يجتمع في رحاب الأزهر أحد أهم القوة الناعمة في مصر، ليبحث في مؤتمر حاشد مستقبل الخلافة الإسلامية (13 مايو سنة 1926) وينتهي بأنه لا مجال للخلافة بعد نشوء الحكومات الوطنية، كما كان على الشعراء العرب أن يفدوا إلى القاهرة أفرادًا وقوافل لمبايعة أحمد شوقي أميرًا للشعراء (29 إبريل سنة 1927)، ويتردد ذلك في أنحاء العالمين العربي والإسلامي، أما عميد الأدب العربي فهو الدكتور طه حسين، وكوكب الشرق هي أم كلثوم.

وأم كلثوم أحد أهم وسائل القوة الناعمة المصرية طوال القرن العشرين، يأتي الملوك والرؤساء لسماعها، وتُحجز مقاعد الطائرات القادمة إلى القاهرة ليلة الخميس الأول من كل شهر، لحضور حفلاتها، وإذا ما سافرت يخرج في استقبالها عشرات الآلاف في المطار إلى الفندق ومن ثم الحفل وحتى المغادرة.

بينما كانت جامعة القاهرة هي أمل التعليم في ذهن غالبية الشباب العربي من المحيط إلى الخليج، وعندما يحدث العدوان الثلاثي على مصر فإن الشباب العربي يتطوع ويُضرب العمال وتموج المدن بالتظاهرات، وعندما يموت الزعيم جمال عبدالناصر فإن جنازات من المحاكاة تسير في شوارع المدن العربية، أشهرها كان في بيروت، أما نجيب محفوظ فهو عميد الرواية العربية باعتراف العالم، والذي تمثل في تلك الأيام من عام 1988 حين فاز بجائزة نوبل في الأدب.

وتفيد القوة الناعمة أو ثمارها بالتأكيد صانعيها إذا ما جرى استغلال تأثيرها سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، فالمسلسلات التركية المدبلجة جذبت السياح العرب إلى تركيا بأعداد رهيبة، كما راجت السلع التركية في أسواقنا العربية، ولولا تقلبات السياسة وغرابة مواقف الرئاسة التركية من بعض ما يجري في عواصم عربية، لكانت البضائع التركية اكتسحت الأسواق، وخلفها بالتأكيد وقفت القوة الناعمة.

كنا في مصر - بوعي أو بتلقائية - ننتج القوة الناعمة من الغناء والسينما والأدب والمواقف والتوجهات السياسية، ونشارك هذه القوة مع الآخرين من دول عربية وإفريقية ودولية، كنا نعزف النغمة الصحيحة، إلا أن تعبير "النغمة الصحيحة" الذي رددته الألسنة بعد هزيمة 67 كان له مقاصد أخرى، وحدثني وزير الإرشاد القومي في تلك الأيام الأستاذ محمد فائق عن ذلك التعبير الذي كان يسمعه أينما حل، بقصد أن نغمة الغناء والخطاب الإعلامي ليست صحيحة، فأين النغمة الصحيحة التي تتناسب مع الموقف العام في البلد. 

كان السؤال يحمل في طياته استعجالًا للثأر من إسرائيل، وكان الشعب المصري يريد الحرب في أسرع وقت من دون أي تعطيل أو إرجاء، ويدعم ويبذل أي شيء في سبيل النصر واستعادة الكرامة، ويريد من وسائل الإعلام صبغة عسكرية في البرامج والأغاني والأفلام، وحاول الوزير فائق بشتى الطرق، وكلف بعمل برامج، منها على سبيل المثال: برنامج "ما يطلبه المحاربون"، وحكى في هذا الإطار قصة أغنية "قصيدة مصر" لإبراهيم ناجي وألحان رياض السنباطي وغناء أم كلثوم، ويقول الوزير فائق إنه طلب من أم كلثوم أغنية وطنية، وكانت سيارتها تحت البيت للاستعداد للسفر إلى الإسكندرية، فقررت تأجيل السفر حتى أنجزتها..

بينما رصيد أم كلثوم لدى الرأي العام العربي كان وراء نجاحها في إقامة الحفلات التي خصصت عائدها للمجهود الحربي.

وأكد لي الوزير فائق أن القاهرة دائمًا ما فتحت أبوابها للفنانين العرب، ويكونون في نهاية المطاف جزءًا من القوة الناعمة المصرية.. وحكى أنه كلف من قبل عبدالناصر بحضور احتفالات دمشق بمرور عام على الثورة التي أعادت العلاقات مع القاهرة، ووصول حزب البعث إلى السلطة، وكان فائق أول وزير مصري يصل دمشق منذ الانفصال. وذهب لمقابلة عبدالناصر لمعرفة توجيهاته، فقال له: "حاول ترجع صباح؛ لأن الضرائب طفشتها، هاتها وحل لها مشاكلها"، واتصل بها في دمشق وزارته في الفندق وفرحت بشدة، وعادت لتشدو في القاهرة من جديد.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة