ليس البترول هو الذهب الأسود الوحيد، بل هناك أنواع أخرى من الثروات المعدنية أغلى من الذهب..
لا يكاد أحد في مصر يصدق أن شريان حياتها ومصدر خيراتها المائية والزراعية يمكن أن يكون مصدرًا عظيمًا لثروتها المعدنية أيضًا! فها هي الدلتا تمد كفيها وتلقي بأطراف أناملها المعطاءة بأطنان من ثروة أهملناها كثيرًا لسنوات وسنوات قبل أن ننتبه لأهمية تلك الكنوز التي احتفظ بها لنا النيل على مر الأعوام..
إنها الرمال السوداء.. واتضح أن مصر تملك منها ملايين الأطنان من أجود الأنواع.. فما سر هذه الرمال؟
الرمال السوداء هي رواسب شاطئية سوداء ثقيلة، تتراكم على بعض الشواطئ بالقرب من مصبات الأنهار الكبيرة، وتتركز هناك بفعل تيارات الشاطئ على الحمولة التي تصبها الأنهار في البحر بالضفاف، واللافت هنا أن تلك الرمال الغنية تتكون في مجملها من المعادن الثقيلة ذات الأهمية الاقتصادية العالية، وخاصةً معدني الماجنتيت والألمنيت، وتُستغل كخامات للحديد، كما تحتوي عادةً نسبة صغيرة من المعادن المشعة كالمونازيت وغيره، وكلها معادن يغلب عليها اللون الداكن.. لهذا يتم استغلال هذه الرمال السوداء من أجل استخراج معادن عديدة، وأهم البلاد التي تستغلها الهند والبرازيل والآن مصر.
أغلى من الذهب
اليورانيوم اليوم يمثل معدنًا ذا أهمية إستراتيجية خاصة، فمن ناحية أنه يمثل مصدرًا لتوليد الطاقة النووية ومن ناحية أخرى لصناعة السلاح النووي بالنسبة للدول الكبرى المصنعة لهذا السلاح، ناهيك عن الحديد الذي تقوم عليه سائر أنواع الصناعات الثقيلة، فما بالك برمال تملك في طياتها المعدنين معًا؟!
ليس هذا فحسب؛ بل إن هذه الرمال تحتوي على معادن أخرى عظيمة الأثر اقتصاديًا لعل أبرزها معدن الروتيل والألمنيت ويستخدمان في صناعة البويات، ومعدن الزركون ويستخدم في صناعة السيراميك والعوازل والخزف والأسنان التعويضية، كما يستخرج من معدن الزركون عنصر الزركونيوم الذي يستخدم في صناعة أغلفة الوقود النووي وفي العديد من الصناعات النووية والإستراتيجية الأخرى، ومادة الجارنت لصناعات فلاتر المياه والصنفرة، والماجنتيت الذي يستخدم في صناعة الحديد الإسفنجي وتغليف أنابيب البترول، والألمنيت الذي يستخدم لإنتاج معدن التيتانيوم لصناعة هياكل الطائرات.. ثم إن معدن المونازيت المشع الموجود بهذه الرمال يمثل مصدرًا لإنتاج العناصر المستخدمة في الصناعات العالية التقنية التي تعتمد أغلبها على الإلكترونيات، بل وتذهب بعض التقديرات إلى احتمالية وجود رواسب الذهب وبعض الأحجار الكريمة ببعض طبقات هذه الرمال! إن المعادن والمواد التي تحفل بها الرمال السوداء تبلغ في بعض التقديرات نحو 41 عنصرًا!
كل هذا وغيره دفع مصر لاتخاذ خطوات حثيثة للمسارعة بتنفيذ هذا المشروع الطموح حتى تحقق لها ما أرادت بعد نحو ثلاث سنوات من أخذ الموافقة عليه..
ففي أبريل من عام ٢٠١٦ تم تأسيس أول شركة مصرية لتعدين الرمال السوداء، وهي الشركة الوطنية للرمال السوداء بالبرلس بمدينة كفر الشيخ، وقدرت تكلفة المشروع استثمارات بحوالي ٢ مليار جنيه.
ثم في عام ٢٠١۹ صدق الرئيس عبدالفتاح السيسي على القانون رقم ۸ لسنة ٢٠١۹ بالترخيص لوزير الكهرباء والطاقة المتجددة في التعاقد مع هيئة المواد النووية والشركة المصرية للرمال السوداء، بشأن البحث عن استكشاف وتعدين وتركيز المعادن الاقتصادية والمنتجات الثانوية من ركاز الرمال السوداء واستغلالها على مستوى الجمهورية، واعتزام مصر البحث عن المقدرات الثمينة من الرمال السوداء، وانطلاق التوجه نحو الاستفادة من تلك الثروات، التي تدر عوائد اقتصادية ضخمة..
وها نحن اليوم على أعتاب البدء بمشروع طال انتظاره..
اليوم يتحقق الحلم
وأخيرًا تحقق الحلم الصعب المتعثر.. حيث افتتح الرئيس السيسي مؤخرًا مصانع الشركة المصرية للرمال السوداء..
لم يتحقق هذا الحلم بسهولة، بل كانت هناك خطوات وتحضيرات كثيرة لعل من أهمها استيراد الكراكة تحيا مصر هولندية الصنع والتي تم صناعتها خصيصًا لمصر لتكريك الرمال، وهى أول كراكة عائمة تعمل بالطاقة الكهربائية! ذلك الوحش الهائل تم شحنه على سفينة من ميناء روتردام إلى الإسكندرية ثم إلى بوغاز البرلس بمحافظة كفر الشيخ؛ حيث أرض المشروع بمنطقة ملاحة منيسي ببلطيم، ويبلغ وزنها أكثر من خمسمائة طن وطاقتها الإنتاجية اليومية تبلغ نحو 2500 طن .. شئ مدهش..
ليس هذا هو الأمر العجيب الوحيد، والذي تم واكتمل في صمت حتى فوجئنا به يظهر على أرض الواقع بعد مسيرة متعثرة لعشرات السنين، لكن الأعجب منه أننا الآن أمام مصنعين كبيرين لتكريك الرمال واستخراج المعادن الثمينة لا مصنع واحد، أحدهما وأهمهما مصنع بلطيم على مساحة 35 فدانًا باستثمارات مشتركة بين محافظة كفر الشيخ، وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية بالقوات المسلحة، وهيئة المواد النووية، وبنك الاستثمار القومي، والشركة المصرية للثروات التعدينية، وباستثمارات تتخطى مليار جنيه! هذا المصنع تم إنشاؤه بخبرة مصرية أسترالية، أما المصنع الثاني فبخبرة صينية بشمال البرلس وباستثمارات تبلغ 24 مليون دولار، فإذا كانت التكاليف والأعمال بهذا الحجم الجبار فكم تكون العائدات؟
لاشك أنها عائدات هائلة.. إذ تتنوع الكنوز الرملية السوداء المصرية بين باطن الأرض وأعماق البحار، فمصر الآن تتمتع بكنز كبير لا يقدر بمال ويعد إحدى الثروات المعدنية الواعدة، كنز قديم تبوح به السواحل المصرية المطلة على مياه البحر الأبيض المتوسط في المناطق الواقعة بين رشيد إلى العريش بطول ٤٠٠ كيلومتر! لهذا فليس مستغربًا أن نشهد تلك الإشادة العالمية بهذا المشروع الطموح.
ومن حسن الطالع أن يأتي افتتاح مصانع الكنز الأسود المصري قبيل أيام من حدثين لا يقلان أهمية عن هذا الحدث، وهما مؤتمر المناخ والمؤتمر الاقتصادي، وهو ما ينم عما تحفل به جعبة مصر قيادةً وجيشًا من أعمال ومشروعات وآمال تفوق الجبال رسوخًا وارتقاءً.
[email protected]