ألقى الرئيس الصيني "شي جينبينج"، خطابًا مهمًا استمر ساعة و٤٥ دقيقة في السادس عشر من الشهر الجاري، أمام المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، الذي يلتئم مرة كل خمس سنوات، وهو خطاب يترقبه كثيرون داخليًا وخارجيًا، لفهم وتحليل توجهات القيادة الصينية حيال الأوضاع الدولية الملتهبة، وما ستؤول إليه العلاقات مع القوى الكبرى والإقليمية، ومن ثم تبني وتخطط وفقًا لذلك سياساتها ومواقفها .
غير أن "جينبينج" كان على قدر من الحصافة والذكاء بتركيزه خلال أقل من ساعتين على القضايا الداخلية دون غيرها، فهي العصب والمبتغى، وفي ثناياها أوصل ما أراده من رسائل وتهديدات مبطنة وغير مبطنة لمَن يهمه ويعنيه الأمر على الساحة العالمية المكتوية والمتقلبة على جمر توابع الحرب الروسية - الأوكرانية، التي لم يتطرق إليها شي بخطابه، ومأزق الطاقة الذى أحدث خلخلة ومشاحنات رهيبة بالبلدان الأوروبية والولايات المتحدة، واستمرار جائحة كورونا، وتضرر سلاسل الإمدادات الغذائية.
ولم يتجنب "جينبينج" الحديث المباشر عن العواصف السياسية والعسكرية والاقتصادية العالمية العاتية من منطلق الاستهانة ولا الاستخفاف بها وبتأثيراتها المدمرة والحادة والتي طالت شظاياها الاقتصاد الصيني ـ ثاني أكبر الاقتصادات العالمية ـ ولكن من حرص واضح على مخاطبة الداخل وطمأنته على قدرة بكين الفائقة على حماية مصالحها، وأنها مالكة لمقومات وأدوات قوة كافية وتزيد لردع مَن يمس جبهتها الداخلية، وتعرف كيف ترد على الاستفزازات التي تستهدف سيادتها الوطنية وأمنها القومي، قدس أقداس الدول.
ومن واقع قراءتي لخطاب الزعيم الصيني خرجت بكلمتين تلخصان ما جاء فيه، هما الاستقرار والقوة، ففيه استخدم "جينبينج" كلمتي "الأمان" و"الأمن" حوالي ٧٣ مرة، وأنه لن يُسمح للفوضى وداعميها بطرق أبواب الصين، وسيتم مواجهتهما بحزم وحسم ودون انتظار، وتلمس ذلك من عبارة رددها عن تجربة بلاده عندما استعادت "هونج كونج" من بريطانيا، حيث قال: "بكين حولت الوضع في هونج كونج من الفوضى إلى الحكم".
وفى معرض تشديده على جزئية الاستقرار، التي تعد حجر الزاوية للدول الساعية للتقدم والنجاح، فإن "جينبينج" أوضح بجلاء أنه لا مجال للمساومة على السيادة الوطنية في إشارة لقضية تايوان التي تعتبرها جزءًا من أراضيها، وتعاملها كمقاطعة متمردة ستعود حتمًا لحضن الوطن الأم يومًا ما.
وهذه الإشارة موجهة بالأخص لأمريكا وقياداتها الحاكمة المصرة على حك أنف بكين عبر تشجيع تايبيه على الانسلاخ والابتعاد عن الصين، وتمدها بالأسلحة المتطورة، وترسل قادتها لتايوان الواحد تلو الآخر حاملين برقيات الدعم والتأييد لها ضد بكين، والمضحك في هذا السياق أن واشنطن لا تريد الاتعاظ من درس أوكرانيا وما فعلته هناك وتسبب في نشوب الحرب لاحقًا مع روسيا، واحتراق عالمنا المعذب بنيرانها المستعرة حتى الآن.
هنا ربط الرئيس الصيني رفضه المساومة على تراب وسيادة وطنه بتأكيد لا لبس فيه أن بكين لن تتردد عن اللجوء للقوة لإرجاع تايوان إلى حظيرتها، إن تطلب الأمر، وقال: "إن الصين لن تتعهد أبدًا بالتخلي عن استخدام القوة، وأن التوحيد الكامل لبلدنا يجب أن يتحقق وسيتحقق"، وإن عدت لفيديو الخطاب سوف ترى أن "جينبينج" تعمد قول ما سبق ببطء شديد، حتى تخرج كلماته جلية وناصعة الوضوح والمغزى للإدارة الأمريكية وحليفتها تايوان ومعهما حلفاء واشنطن في القارة الأوروبية.
حديث القوة اقترن أيضًا ببعد آخر تمثل في دعوة "جينبينج" بالإسراع بعمليات تحديث الجيش الصيني ليصبح جيشًا عالميًا، وتطوير الأفراد والأسلحة، من أجل تعزيز القدرات الإستراتيجية للجيش البالغ قوامه نحو ٢,٢ مليون جندي بموارنة تزيد على ٢٢٩ مليار دولار، فالحقوق لكي تسترد وتصان يلزمها قوة شاملة ورادعة.
وما استرعى انتباهي واستوقفنى مليًا في خطاب "جينبينج" كان حديثه عن هدف تطوير التكنولوجيا وضمان أمن مصادر الصين الغذائية اعتمادًا على الذات والقوة بواسطة تحسين النظام التعليمي وجذب الخبراء الأجانب، فالتعليم سيظل المفتاح السحري لكل الأبواب الموصدة، مهما كان إحكام إغلاقها، وترياق الشفاء الناجع والأكيد منِ الأمراض كافة، وتجاوز العقبات والتحديات، وعبره تحقق الأمم والشعوب قفزاتها ووثباتها على مضمار التقدم والارتقاء، والمحافظة عليهما.
وندرك أن ذاك معلوم بالضرورة وليس بجديد، لكنه إعادة تأكيد لحيويته والصبر على إنجازه، طبقًا للوصفة الصينية، وأن يكون الجميع عونًا وسندًا لتلبيته بدلا من عرقلته وإفساد كل جهد يبغي تطويره ورفعته، لأن هذه العرقلة ستكون سببًا في الإضرار بأجيال قادمة وفرصها في امتلاك المعرفة وإمكانيات قوية تؤهلها بجدارة لسوق العمل واشتراطاته، ومساهماتها الفاعلة في بناء أوطانها ومواهبها وكفاءاتها.