غادر أبي دنيانا الزائلة قبل أسبوعين، وخلال هذين الأسبوعين جاهدت، حتى أكتب عنه بضعة أسطر، وتخليت عن قاعدة ثابتة ألزمت بها نفسي طواعية، منذ عملت في بلاط صاحبة الجلالة قبل ثلاثة عقود خلت، وهي ألا أتطرق لأمور شخصية، وأن يعلو العام على الخاص، لكنني أمام حدث جلل يُجيز لي، لمرة واحدة، استخدام خانة الاستثناء، وأن يتقبل القارئ هذا الاستثناء بنفس راضية.
فيدي لم تطاوعنِ للتحدث عنه بصيغة الماضي، واجترار الذكريات والأوقات السعيدة الملهمة، وكلما ظننت أنني جاهز للشروع في الكتابة لا أستطيع إكمال العبارات والجمل، وعجزت تمامًا عن المضي قدمًا وكأنها أول مرة أكتب فيها، إلى أن استجمعت شجاعتي وعزيمتي لأحدثكم قليلا وفي عجلة عن إنسان شكل وجداني وعقلي ومسارات حياتي، وأنار طريقي بنصائح وإرشادات ثمينة لا تغيب أبدًا عن نظري وذهني، وغرس فيّ قيمًا وتعاليم لا أحيد عنها، مهما كلفني التزامي واقتناعي بها من تبعات وصعوبات، لأنها بعيدة كل البعد عن المواءمات وإظهار خلاف ما أبطنه، وأن يكون الصدق والوضوح هما العنوان الرئيسي لي، وأن أترفع عن الصغائر وأسمو فوقها، وأتجنب أفعال الصغار والضعفاء، وأن يكون التسامح نهجي الدائم.
بعدها فكرت في القالب الذي سأتحدث فيه عن أبي قدوتي الغالية في الحياة، واخترت توجيه رسالة إليه وهو في دار الحق عند مليك مقتدر ومطلع على السرائر ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ويقيني أن روحه الطاهرة سوف تحس بها، وتعي ما أود إيصاله بواسطتها، وإلى نص رسالتى المقتضبة:
أبي الحبيب
سلام عليك
ابتداءً دعني أعترف لك بأنني، حتى الآن، أجد صعوبة ومشقة كبيرة في تقبل غيابك، رغم علمي أنك في مكان أسمى وأرقى وأرحب من دارنا الفانية، وكيف يتسنى لي هذا، وقد تعودت وألفت حضورك، الذي كان يملأ الأجواء بالحيوية والابتهاج والرصانة، وكنت أستهل يومي بالاتصال بك تليفونيًا، وتطرب أذني بالاستماع لردك الجميل "عامل إيه ياحبيبي"، وبعدها نتبادل أسئلة وإجابات عن الشئون العائلية والعامة وقضاياك وما بها من مغامرات وحوادث وتفاصيل أغرب من الخيال.
ثم ننهي الاتصال الذي يتكرر أكثر من مرة على مدار اليوم، ولم يكن الحوار يجري بين ابن وأبيه، بل قل بين صديقين حميمين بينهما مساحات شاسعة من الاحترام والتقدير، وكان حريصًا على سير العلاقة بهذا الشكل اللطيف والراقي، وطبعًا يا والدي لم يكن يمنعك هذا من الضبط والربط، عند الحاجة، وعودتني ومعي أخواتي على حرية الاختيار، وأن يتحمل كل منا ما سينتج عن اختياراته، ولم تسع يومًا لفرض شيء ما علينا، لأنه بخبرتك العريضة في الحياة عاصرت تجارب كثيرة ومآسي وقعت جراء إجبار الأبناء على سلوك درب بعينه، أو نوعية ما سيدرسونه، بصرف النظر عن ميولهم ورغباتهم.
وأصدقك القول يا أبي بأن وجهك الصبوح والابتسامة التي لم تكن تفارقه لا يغيبان عن عيني، وكنت أغبطك على هذه الخاصية الحميدة، فمهما كانت الأجواء المحيطة بك قاتمة ومتوترة تبقى ابتسامتك ولا تستبدل التجهم بها، حتى إذا غضبت، فلم يكن غضبك يدوم طويلا، فابتسامتك كان لها سحرها الآسر ومفعولها الممتد فينا وفي مَن يتعامل معك منِ محيطنا الأسري، أو المهني، وشخصيًا خبرت قوة البسمة على الشفاه وتأثيرها، وكيف تستطيع قلب الموازين المختلة وتهدئة النفوس المشحونة والغاضبة، وإعادة الشخص إلى بر السلامة والسكينة، واتقاء الشرور الناجمة عن لحظات الغضب والانفعال الزائد على الحدود الطبيعية.
ولمست يا أبي كيف ساعدك تفاؤلك وثقتك في قدراتك على تخطي محن وتحديات كانت قادرة على تحطيم معنويات أي شخص هش، ووأد أحلامه وطموحاته وتشييعها لمثواها الأخير، ليحل محلها اليأس والقنوط والخنوع، وشهادتي أمام المولى عز وجل أنني لم أرك يومًا ضعيفًا ولا مستسلمًا، وكانت متعتك ورياضتك المفضلة تحدي الصعاب، وامتلاك مقدرة رهيبة على إيجاد الحلول والمخارج من أصعب وأعقد الأزمات.
ولم يهزمك ويفت فى عضدك سوى المرض، الذي أوهن جسدك، وأفقدك حيويتك مجبرًا، وعلى الرغم من شدتك تلك كنت لآخر لحظة في حياتك تهتم وتجتهد لإزالة هموم ثقيلة عن أناس كثيرين، وصبرت حامدًا وشاكرًا على ما أصابك منِ ابتلاء، حتى فاضت روحك الطاهرة إلى بارئها، وأدرك يا أبي ما قاسيته وتحملته منِ آلام موجعة لا يقوى عليها سوى الأشداء والمؤمنين عن حق بقضاء الله عز وجل، وأن كل ما يأتي من الخالق العظيم هو خير وليس شرًا كما تعتقد أكثرية الناس.
يزيد على ذلك أنك لم تبخل على أحد بالنصيحة والمشورة، وكنت تقدمها عن طيب خاطر، دون ترقب، ولو كلمة شكر على صنيعك، ولم تكن تتوقف عند بعض ناكرى الجميل، أو تفتر همتك عن دعم ومؤازرة مَن يطرق بابك ممَن تعرفهم، أو لا تربطك بهم صلات قوية ومستمرة، وكم كان يسعدك ويبهجك جبر خواطر الآخرين دون تمييز ولا تفريق، وتأكدك المتواصل أن الأسوياء نفسيًا وإنسانيًا محتمٌ عليهم الهرولة للأخذ بيد مَن يحتاج لرافعة تخرجه منِ حقول الألغام والأشواك التي نجد أنفسنا وسطها باختيارنا المحض، أو مرغمين تحت وطأة تقلبات الحياة ومفاجآتها غير المنتظرة أوالمتوقعة.
وسأكتفي يا أبي بهذا القدر اليسير من سيرتك الطيبة العطرة الباقية أبد الآبدين، وستظل نبراسًا لي ولكل محبيك وتلاميذك، وهم كثر، وسلامًا على روحك الزكية، إلى أن نلتقي على خير في دار البقاء والخلود.