الرقمنة ستمكن لندن من استهداف الآذان المطلوبة مباشرة
فى عالم «الحقيقة» لا يوجد ما يسمى بالحياد، لا توجد منطقة وسطى ما بين الحق والزيف، والإعلام فى العالم ليس استثناء من هذه القاعدة، هو إما ينقل الحقيقة، أو يضلل الرأى العام، ولم يحدث أبدا منذ أن عرف العالم البث الإذاعى من خلال الموجات اللا سلكية فى 13 فبراير 1920، أن أنكر العلماء أو آحاد الناس، أن الإعلام قدرة إستراتيجية، أى «سلاح» حاسم فى أى صراع.
مشوار هيئة الإذاعة البريطانية الذى بدأ عام 1922 تحت اسم "شركة" الإذاعة البريطانية، كاستثمار خاص، ثم تحولها مع مطلع 1927 إلى شركة عامة، أظهر تدخل الحكومة البريطانية للحفاظ على الوسيلة الإعلامية الجديدة، كقدرة مهمة للإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس، وهكذا اعتمدت "بى بى سى" على الحكومة كمصدر أساسى للتمويل فى صورة منحة سنوية، ومن بعد ذلك نشأ المصدر الثانى "الموازى" للتمويل، من خلال رسوم التراخيص الخاصة بأجهزة استقبال الراديو عند ظهور التليفزيون فى المملكة المتحدة حتى اليوم.
ومع تراجع الجنيه الإسترلينى أخيرا مقابل الدولار، وفى 29 سبتمبر الماضى، قررت الهيئة وقف بث الخدمة باللغة العربية والفارسية والصينية والبنغالية وغيرها، على أثير الهواء، وتحويل البث إلى الإنترنت، أى أن يكون البث مستمرا بشكل رقمى، ما يتيح للهيئة توفير 382 وظيفة تكلف 28.5 مليون جنيه إسترلينى، لينتهى بذلك صوريا "عمل إستراتيجى" استمر 84 سنة بلا انقطاع.
المثير فى هذا التطور هو أن البث لم ولن يتوقف، كل ما حدث أن طريقة البث تغيرت، وفيما يتعلق بالبث باللغة العربية، فإن تليفزيون البى بى سى، خارج هذه المعادلة، ودخول الخدمة الإذاعية إلى العالم الرقمى، سيجعل من "الرسائل الاتصالية" التى تبثها هذه الهيئة عن عمد، قذائف أدق تصويبا، بل يمكن قياس مدى ما تنجزه بشكل أدق وأكثر فاعلية وأقل كلفة.
كان الباحثون فى العقود السابقة، فى مجال الإعلام الإذاعى والحرب النفسية، يلجأون إلى تحليل المحتوى الظاهرى؛ لكل ما يصدر عن هيئة الإذاعة البريطانية وبالذات البث باللغة العربية، وبشكل أكثر تدقيقا فى تلك المراحل العصيبة التى خاض فيها العالم العربى معاركه المصيرية للتحرر من الاستعمار والصراع مع الكيان الصهيونى، وكذلك أثناء الحرب الباردة، وأخيرا فى ذلك الصراع الدائر بين الأنجلو ساكسون، والسلافيين، الذى ينذر بوقوع حرب عالمية ثالثة، اليوم، ومع دخول البث العربى لهيئة الإذاعة البريطانية إلى العالم الرقمى، يسهل وإلى حد فائق، قياس مدى تأثير هذه الرسائل الاتصالية إلى من وصلت؟ ومن هم الفئة التى تعرضت لهذه الرسائل، ومدى تفاعلهم معها، وكيفية التأثير النهائى، فى أفكار الشباب العربى وسلوكهم،
الاتصال الرقمى، الذى يستهدف الفئات العمرية الأكثر شبابا فى العالم العربى، يتيح وبشكل فورى وبسيط، رصد عدد المستمعين وتوقيتات الاستماع وتعليقات المستقبلين، ومن ثم قياس اتجاهات الرأى العام تجاه الرسائل، سواء كان أخبارا أم برامج للرأى أم التحليل أم للترفيه!
ومع تطور "الخوارزميات" على الشبكة العنكبوتية، سيسهل البث إلى نوعيات الشباب من المستمعين واستمالتهم فكريا وعاطفيا، تجاه ما تريده الجهات الممولة والمشغلة لهذه الإذاعة، ذلك أن رجع الصدى الفورى الذى تتيحه تكنولوجيا البث الرقمى والتطور الجارى فى مجالات الذكاء الاصطناعى، سسيمكن القائمين على رسم السياسات الاتصالية فى هذه الإذاعة، من تعديل الرسائل وتطويرها وتحديثها بصورة أسرع وأكثر دقة وكفاءة فى التأثير.
هنا لندن.. القسم العربى بهيئة الإذاعة البريطانية، هذا النداء الذى كان يتصيد الآذان بالمصادفة، سيحدد من خلال الرقمنة الآذان التي يتوجب عليه أن يصيبها، ستصبح الكلمة "من فم إلى أذن"، ولن تفقد هذه الإذاعة الكثير من مزايا البث اللاسلكى، فكثير من أجهزة الراديو فى السيارات فى عالمنا العربى، مجهزة للاستقبال وفن منظومة "بودكاست"، وهى منظومة تستخدمها حاليا قناة الجزيرة القطرية وقناة سكاى نيوز عربية، ولجأت إليها قنوات روسيا اليوم، بعد الحظر الدولى الذى فرض عليها فى أعقاب نشوب الصراع فى أوكرانيا.
وبشكل نظرى، فإن موجات البث على الهواء، سواء كانت قصيرة أم متوسطة MW أم بتقنيات أكثر وضوحا ورقمنة، كما هى الحال فى موجات FM، أو غيرها، تعتمد على تغطية مساحات جغرافية، ويعتمد التقاطها على إرادة المتلقى فى تحديد طول الموجة، وبالتالى استقبال البث الإذاعى، أما على الإنترنت، فيوجد "موقع" ثابت له عنوان إلكترونى موحد URL، من الممكن الوصول إليه من أى بقعة على وجه الأرض، أو البحر أو الفضاء الخارجى، وهو أقل كلفة فى البث بمقدار الواحد إلى الألف من تكاليف الهندسة الإذاعية.
ومع تطور شبكات المحمول إلى الجيل الخامس 5G، وقريبا الجيل السادس، سيتمكن كل من يحمل فى يده هاتفا محمولا، أن يتلقى الخدمات الإذاعية بالصوت والصورة والحرف المكتوب فى آن معا، بصورة أسرع وأكثر فاعلية، وهو ما يعنى أن خيار هيئة الإذاعة البريطانية التوجه بسرعة وكثافة إلى العالم الرقمى، سيكون هو النموذج الذى ستسعى إليه وسائل الإعلام فى السنوات القليلة المقبلة، من أجل فرض النفوذ الإستراتيجى على العقول والقلوب، ومن ثم توجيه الرأى العام إلى الوجهة التى تصب فى اتجاه مصالح صاحب الرسالة الاتصالية.
الحقائق الجيوإستراتيجية، تؤكد أن هذا التطور وإن كان بالفعل واكب أزمة اقتصادية خانقة فى المملكة المتحدة، ليس وليد رؤية قاصرة، ويكفى أن ننقل نص تصريحات مديرة خدمة بى بى سى العالمية "ليليان لاندرور"، إذ قالت بالنص لموقع «يورونيوز»: لم يكن دور بى بى سى أكثر أهمية فى جميع أنحاء العالم من أى وقت مضى، كما هو اليوم، تتغير الطريقة التى يصل بها الجمهور إلى الأخبار والمحتوى، ويتزايد التحدى المتمثل فى الوصول إلى الناس فى جميع أنحاء العالم، وإشراكهم بجودة الصحافة الموثوقة.
هذا التصريح يؤكد أن هذا التطور مدروس بعناية، وبالنظر إلى تفاهة المبلغ الذى تم توفيره من أصل 500 مليون جنيه إسترلينى، هى رصيد هذه الهيئة، يمكننا بوضوح أن نشير إلى أن الدور الذى تقوم به بى بى سى فى فرض نفوذ الرؤى البريطانية والغربية عموما على المتلقى العربى، سيتم تطويره إلى مستويات أضخم تأثيرا، وهو ما يفرض على الإعلام العربى والمصرى - بالذات - تحديات غير مسبوقة لمواجهة المؤثرات الخارجية على الهوية الوطنية والوعى الحقيقى بطبيعة التحديات والمخاطر التى تواجهها الدولة الوطنية، فى عالم يتجه بسرعة الصاروخ إلى الاستقطاب الحاد والكساد.