حين تكون حزينًا، أنت لا تقول ذلك غالبًا بطريقة مباشرة: أنا حزين، لكنك تُعبر عنه بألف تعبير آخر، وشكل آخر، تحاول أن تجد أسبابًا ظاهرة غير تلك المخفية، تدعي مثلاً بأن الشاي ينقصه أو يزيد فيه بعض السكر، أو أن الصوت العادي أعلى من المعتاد، تغضب من كلمات عادية وأفعال عادية، وتُرهقك أشياء عابرة، وتلك ربما مأساة أخرى تُضاف لحزنك الأساسي.
ونحن لا نبوح دائمًا بأشد الأشياء أذى في قلوبنا، بل نتفاداها؛ نحاول أن نتفاداها، غالبًا نُفضل المضي في الطريق بأحزاننا ومتاعبنا بكتمان حتى أول تعثر، فنكتب كثيرًا، وببساطة نمحو كل ما كتبناه، نُخفي جاهدين أكثر لحظات شعورنا صدقًا، نحتفظ بأكثر ما نحب، وأسوأ ما نمر به، لنا فقط، تتعبنا التفاصيل وندعي بأننا حتى لم ننتبه لها، نركض في اتجاهات خاطئة ونردد طوال الطريق "ربما"، مُحملين بما مضى في الطريق، ومخاوف الآتي، يمتلئ قلبك بالأحزان وتبدو كأكثر البشر سعادة، تخاف؛ وتخاف أيضًا من أن تظهر كل التناقضات الراسخة في قلبك.
وربما أنه أصعب من متاعبك هو مقاومتها، أن تبقى دائمًا صامدًا أمامهًا؛ صامدًا حتى في التظاهر، ولو كان يسيرًا لفعل الجميع، لتمكنا دائمًا من عدم المبالاة، والتخطي، أن نطوي كل شيء في قلوبنا وندعي، نراوغ أمام كل الأشياء الواضحة، أمام كل ما فقدناه أو تمنيناه، ربما أنه أصعب من متاعبك هو مقاومتها لسنوات تبدو دقائقها أمام عينيك كأعوام منفردة، وكل موقف يبدو فيها لغيرك عابرًا وهو يقع على قلبك كحدث متكامل من الأذى.
لكننا وعند مرور كامل الدائرة في قلوبنا، بأن نعيشها أو ننتصر عليها منذ البداية أو بعدها، تصنعنا التفاصيل البسيطة؛ فلا ننساها ولا ننسى دروسها، كالنهوض بعد سقوط غير متوقع، أو الصبر أمام المتاعب المتتالية وقسوة الأيام، فتعلمنا الليالي الحزينة أكثر من السعيدة، ونُدرك حجم قوتنا عند نقاط التجاوز، نُدرك تدريجيًا أن التعثر بكل أشكاله جزء من الرحلة ومسيرة العمر والأيام، وأنه لن يمضي كل شيء دائمًا كما نريد، ونجد فائدة ما في هذا كله.
تُدرك لاحقًا أنك لم تكن في ضرورة لكثير مما عشته، للصدامات التي خضتها، والصدمات التي كُنت أحيانًا جزءًا من حدوثها، أنك كنت مُخطئًا في كثير من حسابات ما مضى، ودوافع الحزن وتفاصيله، وأنه ببساطة كان بالإمكان تفادي كثير من الخسائر في حياتك، وأسباب الأسى ومراحله والرهانات الخاسرة، نُدرك حكمة ما بعد النهايات، وما نخرج به من وعي، أن عتبات قليلة كان تفاديها يُمكن أن يختصر مسافات طويلة من الحزن، وأن بعض الأشياء الراسخة في قلوبنا كحقائق كانت فقط مجموعة من الأوهام أدركناها فيما بعد.