Close ad

حدث بالفعل.. عاش البطل

11-10-2022 | 13:54

الخدمة فى القوات المسلحة كانت وما تزال قدر كتبه الله على أفراد عائلتنا، لا يوجد شخص في أسرتنا لم يدخل الجيش، اللهم إلا ابن عمتي لأنه كان وحيدًا. 

بل أزيد من الشعر بيتًا أن أبي وأعمامي الإثنين كانوا يؤدون الخدمة العسكرية في وقت واحد وحضروا حرب اكتوبر معًا، ولك أن تتخيل شعور أب وأم، لا أقول أبنائهم الثلاثة مجندين، لكن أقول يحاربون بالمعنى الحرفي للكلمة، بمعنى آخر قد يعودوا وقد لا يعودوا. وفقًا لرواية أبى رحمه الله أنه كان قد رشح ليكون ضابطًا بالجيش، وبالتالي كان عليه الذهاب إلى كلية الضباط الاحتياط، ثم قضاء ثلاثة سنوات بعدها بالجيش، ولأنه كان قد ارتبط بعمل قبل دخوله الجيش فقد فضل إنهاء خدمته سريعًا والالتحاق بالجيش بدرجة جندي، حتى يتمكن من العودة سريعًا إلى حياته المدنية وعمله.

لم يكن يعلم أن تلك العودة سوف تتأخر لمدة تسع سنوات حضر خلالها شهران أو ثلاثة فى حرب اليمن ثم حرب 67 وحرب الاستنزاف، ثم حرب اكتوبر 73، كان يبتسم دومًا ويقول لو كنت أعلم أننى سوف أبقي في الخدمة كل تلك المدة لقبلت أن أكون ضابطًا، لكنه النصيب.

الطريف في حكاية أبي أنه بعد أن أنهى خدمته في العريش وسلم مهماته هو وزملائه وذهبوا لاستقلال القطار عائدين إلى منازلهم، فوجئوا بزملائهم من الشرطة العسكرية يطالبونهم بالعودة إلى معسكرهم وارتداء الزي العسكري مرة أخرى.. بالطبع لن يشعر بصعوبة الأمر إلا من خدم بالجيش وأنهى خدمته وهيأ نفسه للعودة إلى حياته المدنية، ولأننى عشت تلك التجربة فقد شعرت بإحساس أبي وهو يحكي لنا تلك الحكاية.. آه.. عفوًا.. نسيت أن أخبركم أن خدمة أبي العسكرية كانت تنتهى يوم 1 يونيو 1967. أي أن حرب الخامس من يوينو قد بدأت بعد إعادته هو وزملائه إلى معسكرهم بأربعة أيام، ومن يومها ظل في الجيش حتى عام 74.

كان أبي في سلاح الاستطلاع، يقول رحمه الله أنه بعد هجوم إسرائيل على سيناء واحتلالها، أصبح أمامه خيارًا واحدًا وهو الهروب من الأسر والعودة إلى مصر، كان خالي يعمل مدرسًا بمدرسة العريش الثانوية، وكان صديقًا لأبي، ذهب أبي باحثًا عنه حتى وجده، طلب خالي منه أن يتركه ويهرب، هو فرد استطلاع مدرب يمكنه ذلك، لكن أبي رفض ذلك وأصر أن يصطحب خالي معه في رحلة العودة، وكان له طلب واحد  بسيط جدًا - في وسط تلك المعمعة - هو أن يوافق على زواجه من أخته إذا قدر لهما الله النجاة. 

طالما استمعنا إلى حكايات أبي عن رحلة العودة من سيناء مشيًا على الأقدام، وكانت السبب في حرصي الدائم على متابعة فيلم الرصاصة لا تزال في جيبي لمشاهدة الجزء الأول الذي يسير فيه البطل على قدميه في الصحراء وأيضًا فيلم أبناء الصمت، لأتذكر أبي وقصته محاولًا إزالة الدهشة عن عقلي حتى يستوعب أن من يجلس أمامي يملأ الدنيا بضحكاته قد عاش تلك اللحظات الرهيبة شديدة القسوة.

كيف كان يبتسم بمرارة وهو يروي لنا لحظة تخلصه من ملابسه العسكرية ودفنها في الصحراء أثناء هروبه حتى لا يقع في الأسر، وكيف ادعى وتقمص شخصية "كناس في البلدية" أمام دورية إسرائيلية استوقفته عندما وصل سيرًا على الأقدام إلى القنطرة غرب.

لا أنساه وهو يحكي لنا عندما أصابه العطش في رحلة العودة ولم يكن معه ماء، وكيف حاول أن يروي ظمأه ببضع قطرات من "البول" وكيف شعر بتشقق شفتيه وهو يضعها عليهما.

حكى عن زملائه الذين استشهدوا أمام عينيه ولم يستطع أن يفعل لهم شيئًا، حكى عن آلاف الشهداء الذين ارتوت أرض سيناء بدمائهم، وحكى عندما استقل القطار ووصل إلى محطة طنطا بملابسه الممزقة وشكله المخيف الذي لم يعرف النوم ولا الطعام عدة أيام، وصل إلى المحطة ليجد أمامه أباه وأمه وأخواته البنات يستعدون للذهاب إلى القاهرة للسؤال عنه ومعرفة هل هو حي أم أصيب أم استشهد، ولم يصدقوا أعينهم عندما رآوه أمامهم بشحمه ولحمه، حكى كيف ظل بعد عودته راقدًا لا يستطيع الحركة وقدماه متورمتان تنزفان نتيجة السير من العريش حتى القنطرة غرب، كان أبي أكبر إخوته، حضر حرب 67 ولم يكونوا قد أصابهم التجنيد بعد، لكنهم حضروا حرب أكتوبر جميعهم. 

حكى لنا كيف كانت حياته على الجبهة بعد تهجير سكان القناة، وكيف كانت طائرات العدو تأتي على المنازل لتسويها بالأرض في لحظة وكأنها لم تكن، وحكى عن نصر أكتوبر وكيف عبرنا وانتصرنا وسوينا بالعدو الأرض، كنا كلما ذهبنا إلى العريش يقف ويشير إلى الصحراء ويقول هنا مشينا وهنا اختبأنا...إلخ... ويبتسم، لم أدرك شعور أبي ومعنى حكاياته وابتساماته إلا عندما كبرت ودخلت الجيش. 

أقولها للمرة الأولى.. عندما كنت أستمع إلى حكايات أبي عن الحرب كانت تحضرني رغمًا عني صورة أبي عندما يتوفى وأنا أقف أمامه أؤدي له التحية العسكرية.

كنت أبتسم وأنصرف عن الفكرة وأقول لنفسي ما كل تلك الرومانسية، يبدو أنني قد تأثرت بحديثه وربما بالأفلام التي أشاهدها، وعندما دخلت الجيش توقفت عن صرف الفكرة عن ذهني ورأيتها واجبًا وعهدًا لابد من الوفاء به، وبالفعل جاءت لحظة وفاة المقاتل ربيع الإمام أحد وحوش قوات الاستطلاع المصرية بعد رحلة صبر على الابتلاء ورضا بقضاء الله لم أر لهما مثيلًا في حياتي وأشهد له بها أمام الله.

انفردت بأبي، اقتربت منه وكشفت وجهه، قبلته عدة مرات، ثم وقفت أمامه بكل أدب ووقار وأديت له التحية العسكرية مرتين، وفجأة انهارت قواى فجلست إلى جانبه وانسابت دموعي عندما مر أمام عيني شريط ذكرياته التي استمتع كثيرًا وهو يحكيها لنا عشرات المرات دون ملل، تلك الرحلة الطويلة المليئة بالعجائب والغرائب التي تصلح أن تكون فيلمًا سينمائيًا رأيتها ترقد أمامي الآن لا حول لها ولا قوة، سبحان من له الدوام.

عاش البطل.. عاش الأبطال في كل زمان ومكان

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة