جاء إلى هذه الدنيا قبل أن نأتى إليها ببضع سنوات، وغادر قبلنا، كأنه طيف عابر.
كان هو عادل أمين خالد طميش، وكانت هي ”تندة” فى البر الغربي. وكلاهما “ الشهيد والقرية ” من الصعيد الأوسط، جاء منها، وعاد إليها بعد أن أدى ضريبة الدم.
كنا على أعتاب المراهقة حين رأيناه آخر مرة، كان بهيا فى زيه العسكري، يبدو كأنه فارس من فرسان الزمن القديم، ضل طريقه إلى العصر الحديث.
كنا صغارًا، وللصغار خيالات، نراه طويلا يقترب من جريد النخل المزروع بكثرة فى القرية، كان فى الواقع يشبه لاعبى السلة، يمتلك بنية قوية، متناسقة، لا يتخلى عن أناقته كمقاتل، حتى فى أوقات إجازاته القصيرة العابرة.
يذهب أيامًا وأشهر، ثم يعود بضعة أيام، إنها الحرب تقترب، ولا بد منها، هكذا كان يقول مبتسمًا راضيًا، إما النصر أو الشهادة، كان يحكي لأقرانه الذين لم يصبهم الدور، أو الذين ليس لديهم نصيب من خدمة العلم.
عادل أمين خالد طميش، هذا هو اسمه، المنحوت في لوح الشهادة، ذهب ليعود، حيًا يرزق، فالشهداء خالدون، وكما كان كالطيف العابر، خفيف الظل، طيب الروح، قدم نفسه فداء في ساحة أعظم معركة في العصر الحديث.
«طميش» لقبه الأخير، لقب غير دارج بين الناس فى مصر، وإن كان منتشرًا فى بلاد الشام، بخاصة فلسطين الشام الجنوبية، ويُحكى أن له إخوة ثلاثة هم: بربري، وشلتوت، وكتكوت، وبربري هو لقبي الأخير، وإذا صحت رواية الأسلاف الطريفة عن هذه الأسماء، فإنه بذلك يكون في موقع ابن العم، ذلك الذي ذهب بعيدًا، يرد الأعادي عن هذه البلاد المحروسة.
مثلما يقول عن حق فؤاد حداد: «فى كل حي ولد عترة.. وصبية حنان”، فإن عادل كان” ولد عترة”، لم نسمع يومًا أنه استغل بنيته العملاقة في الاعتداء على أحد، بل كان يسارع بمساعدة الضعفاء والمساكين، يعمل مع أبيه الحاج أمين في محل بقالته في إجازته القصيرة.
قصة عادل أمين خالد طميش، تتكرر بنفس التفاصيل مع شهداء حرب أكتوبر العظيمة، ففيما بعد كبرنا، توسعت المدارك، فسمعنا قصصًا وروايات عن شهداء تلك الحرب المقدسة، لم يكن غريبًا أن تتشابه الحكايات، تكاد تتطابق كأنها حكاية واحدة لشخص واحد، سواء كان هذا الشهيد من الصعيد الجواني، أم من أطراف الدلتا الخصيبة، أم من عمق الوادي، أم من البوادي، كأنه جيل منذور للفداء، طمرته المحروسة في أحشائها، ثم ولدته في وقت واحد، فخرجت به من كبوتها المفاجئة في يونيو 67.
كان اعتداء يونيو 67 غفلة، والمصري لا يتواءم مع الغفلة طويلا، لا يحب التأرجح، ولا التكيف، مع أي احتلال، يؤمن إيمانًا راسخًا بأن يكون حرًا مستقرًا على جنبات النيل.
المصرى الشبيه بعادل الشهيد هذا، يستعد إذا ما حدث طارئ أو وقعت نكسة، فتراه ينتفض كالمارد.
ليس غريبًا أن يرفض المصري دائمًا حالة اللاسلم واللاحرب، فهو لا يتكيف مع الاحتلال، أي احتلال، وإن وقع بالفعل، فهو يستعد لليوم التالي، وبعد يونيو 67، كان فى اليوم التالى مقاتلاً في الميدان بالفعل، وتوج هذا اليوم بالساعة الثانية من بعد ظهر يوم السبت العاشر من رمضان السادس من أكتوبر.
رحم الله عادل أمين خالد طميش.