Close ad

حكايات قبل الموت.. إعدام عشماوي

10-10-2022 | 15:47
حكايات قبل الموت إعدام عشماويإعدام عشماوي
كتبها - سامح مبروك

زوار منتصف الليل

موضوعات مقترحة

طرقات متتالية وصاخبة أعقبها الهتاف المرعب: افتح بوليس، كانت كفيلة بقض مضجع الصول سعيد -أشهر عشماوي في مصلحة سجون مصر في ذلك الوقت- بعد أن كان كعادته قد غط في نومه العميق باكرًا وسط ظلام دامس، وما إن فتح عينيه مفزوعًا على وقع الطرقات والصيحات، حتى شعر بباب غرفته يتهشم، وسرعان ما اقتحم زوار منتصف الليل غرفته وسط دهشته وعجبه التي أطبق عليهما كيس أسود وضعوه فوق رأسه، وكُبلت تساؤلاته وكلماته كما كُبلت يديه، وكانت أحلامه تتهاوى من أمامه كما تهاوى جسده أرضًا، وسُحق بصيص النور الذي تسرب من مسام الكيس الأسود كما سُحقت رأسه تحت أقدام زواره غير المتوقعين.

لم تصمد أمام تلك الأحداث المفاجئة والمفزعة رباطة جأش عشماوي ولا شجاعته المعهودة وانهار جسده يصارع غيابًا طويلًا عن الوعي، ما قطعه سوى سطل ماء بارد سُكب فوق رأسه ليشهق شهقةً كادت تستنفذ آخر أنفاسه، وسُدىً راحت محاولاته في النهوض من مقعده، فقد كانت يداه مكبلتين من خلف ظهره، وقدماه مقيدتان في قدمي الكرسي، كما أُحكم حبل غليظ حول رقبته يوثقه بظهر الكرسي ويمنع حركته، وفتح عينيه على نور ساطع يخطف الأبصار مُسلط على وجهه تتخلله خيالات سوداء لأشخاص يجلسون على منضدة عريضة في مواجهته.

التحقيق

ولم يكن عشماوي يدري إن كانوا قد كبلوا لسانه أيضًا فأحجم عن النطق، أم أن هذا كان من هول المفاجأة، هنا أتاه صوت غليظ أخذه لمستوى جديد من الرعب والفزع يخاطبه بحدة:
-  الصول سعيد إبراهيم عبد الحق الشهير بعشماوي؟

ابتلع سعيد لعابه بصعوبة وأجبر نفسه على حل عقدة لسانه وأجاب سائله قائلًا:
= أيوه يا فندم، خدامك، هو أنا فين؟ هو إيه اللي حصل؟ عايزين مني إيه؟ انتوا مين؟
-  بالراحة شوية يا عم عشماوي، انت جاي هنا تجاوب مش جاي تسأل.
= بس افهم معاليك أنا فين؟ وليه؟ وهقولك على كل حاجه.
-  انت فين؟ مش مهم مسيرك هتعرف، إنما ليه؟ فدا اللي انت أدرى بيه مننا، واللي جايبينك عشان تعترف بيه.
= يا بيه اعترف بإيه؟ دا أنا على باب الله.
-  طب حس كده باللي بيتصب على راسك يمكن تفهم.

وسرعان ما تساقطت زخات من سائل دافئ لزج لتغمر رأسه، ولم يستغرق الأمر إلا ثوان حتى أدرك عشماوي أن هذا السائل هو دماء دافئة، فارتعد جسده وقال:
= إيه ده يا معالي الباشا؟ ليه كده بس؟ أنا عبد المأمور وكنت بنفذ أمر الله وحكمه.
-  حكم ربنا في أكتر من ٥٠ واحد ماتوا بسببك من غير ذنب.
= يا بيه دا أمر ربنا وأمر القضا، أنا ماليش دعوة بـ ٥٠ ولا ٥٠ ألف، وربنا سبحانه بيقول وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ، و٥٠ إيه يا باشا؟ أنا منفذ أكتر من ٣٠٠ حكم إعدام.
-  ما هو إحنا بنسأل عن ٥٠ بس ومش من الـ ٣٠٠.
= دي فزورة دي ولا إيه يا باشا.
-  إحنا هنهزر يا بني آدم.

الحقيقة

سُحقت عظام عشماوي على أثر الجملة السابقة ولم يكن يدري إن كان قد ضُرب بمطرقة هشمت عظامه دفعة واحدة، أم دهسته سيارة ضخمة، واستمر الصوت في غضبه:
-  انطق يا بني آدم، كنت بتعمل إيه في الجثث بعد تنفيذ الحكم، وانت بتنزلهم من على الطبلية؟

هنا ضاق صدر عشماوي وتملكه ألم يفوق الألم الذي كان يشعر به نتاج الضرب مئات المرات، فأي ألم يضاهي ألم الفضيحة بعد الستر، والذل والعار بعد العز، وشعر فجأة أن ملابسه تتساقط عنه ويتبعها جلده هربًا منه بل نفورًا، ويجد نفسه يجلس أمام أولئك المحققين عاري الكرامة.

ومر من أمامه شريط حياته في السنة الأخيرة كشريط سينمائي رديء لا يعرض إلا في المجارير، فرأى البداية عندما أتاه ذلك الجار اللعين الشيخ حساسين، الذي يَدعي علاج الناس بالقرآن -والقرآن منه براء- يعرض عليه آلاف الجنيهات في سبيل مساعدة المحتاجين من زبائنه لنصر الله فوق السحر والشيطان اللعين، وما عليه سوى أن يدس قطعة ورق صغيرة في فم أو دبر الجثة المعدومة لترافقها لقبرها، ويُفك بها سحر أسود أو عمل سفلي.

لم تطاوعه نفسه في البداية بعدما ارتاب من الطلب والطالب، ولكنه تحت وطأة الحاجة والعوز وافق، وتلت الورقة ورقات، قبل أن يُعرض في منتصف الطريق عن المضي قدمًا، وما كان من الشيخ حساسين إلا أن واجهه بالحقيقة المميتة، بأنه شريك في قتل العديد من الضحايا باستخدام ذلك النوع من السحر الأسود وأنه لو تراجع الآن لفضح ذلك اللعين أمره ودمر حياته وماضيه ومستقبله، فما كان من عشماوي إلا أن أذعن لطلبات الشيخ حساسين، واستمرا في عملهما المشين حتى وصل عدد ضحاياهما الخمسين.

القصاص

ولا يدري عشماوي إن كان قد شاهد هذا الفيلم المخزي وحده أم شاهده كل الحضور، أم أنه أقر واعترف أمامهم بجرمه المشهود، فما كان من المحقق إلا أن قال بصوت مجلجل:
ـ  وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ، ومن قتل يقتل قصاصًا بإذن الله.

وها هو عشماوي يُجر نحو الظلام من قدميه وهو غريق بكائه ونحيبه وندمه، ويُصعد به إلى المنصة الذى كان دومًا عليها هو الفاعل واليوم هو المفعول به، فينصبه من كان يجُره واقفًا، ليرى من أمامه حبل الحق - المشنقة - ومن ورائها حضور غفير، وبلمحة سريعة تعرف على بعض من وجوه الحضور، يا ويلاة إنهم ضحاياه من الجثث، وتُظلم الدنيا من حوله لما وضع الكيس الأسود على رأسه ثم أُسلم للحبل وفتح من تحته باب الطبلية السفلي ليسقط في ظلام لا نهائي وكأنها رحلة قصيرة إلى قاع الجحيم.

وقبل أن يكسر الحبل رقبته ويسلم روحه إلى بارئها فتح عينيه فجأة على وقع طرقات متتالية وصاخبة أعقبها الهتاف المرعب: افتح بوليس.


حكايات قبل الموت

حكايات أخرى من السلسلة:

الجنازة حارة !

لعنة ليلة الدخلة!

ثلاث دقات

أشباح السيارة الخالية! (1)

أشباح السيارة الخالية! (2)

وارد المشرحة

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: