راديو الاهرام
8-10-2022 | 10:22

 كتاب في 450 صفحة بجنيهات زهيدة معدودة.. إلا أنه إضافة ضرورية لأي مكتبة، أما كاتبه.. فهو صاحب خبرة عظيمة هائلة في مجاله المثير الخصب، ومجالات أخرى عدة برع فيها بالمصادفة!

له مقال أسبوعي ثري في الأهرام، ومقال آخر في "أخبار اليوم" وثالث في "المصري اليوم".. هو من بين المقالات القليلة التي أتابعها، وعادةً ما يتكدس المقال الممتع بالأسرار والمعلومات المسرودة بطريقة أدبية رصينة ومثيرة.

وهو فوق هذا متحدث لبق إعلاميًا يملك عليك أسماعك وانتباهَك إذا تكلم؛ ولهذا حرصْتُ كقارئ على اقتناءِ كتابِه الذي صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب كتتويج لمسيرة طويلة تستحق السرد.

هو كتاب ينتمي لأدب السيرة الذاتية إذن، غير أنه كتاب مختلف، لأن كاتبه متفرد متميز حتى عن أقرانه ونظرائه.

الكتاب اسمه: "وداعًا للسلاح"، لمؤلفه اللواء "سمير فرج"، اختار عنوانًا شبيهًا برواية "إرنست هيمنجواي" : "وداعًا أيها السلاح". لندرك أننا على أعتاب قصة ممتعة، غير أنها حقيقية هذه المرة، نابضة بالحياة وبالأحداث التاريخية والمعاصرة.
 
بطل بورسعيد.. الأول في كمبرلي
 
إذا لم تكن تعرف قدر مدينة بورسعيد بعد، فاقرأ هذا الكتاب واستمتع.. لقد اختار اللواء فرج أن يستهل كتابه ذا الأحدَ عشر فصلًا بسرد قصة مدينته الجميلة البهية الباسلة بورسعيد في نسختها التراثية القديمة آنذاك..

كان لا يزال طفلًا يستمتع بمرأى شوارعها المتسعة بالغة النظافة، وأبنيتها ذات الطرز المعمارية الملكية الفخمة، وشواطئها المثيرة للملكَات والأخيلة والحواس. كانت المدينة لا تزال تحتضن سكانًا من جنسيات مختلفة متباينة، فرانكفون وإنجليز ويونانيين وطليان.. إنه شاهِدٌ على فترةٍ من أخصب فترات التاريخ، يرى مدينته تتعرض للعدوان في 56 وتغلى في عروقه دماء النخوة والنجدة والمقاومة، ويتشوف أن يأتي اليوم الذي يغدو فيه مقاتلًا على الجبهة.

تلك الأيام الأولى هي حاضنة التكوين وإرهاصات النشأة التي صاغت رجلًا في ثياب غلام تتألق في عينيه طموحات بطل مقاتل صيغت طفولته في ربوع مدينة باريسية النكهة بأزيائها وتقاليدها وأجوائها ومناظرها البديعة التي أصقلت حسه الفني والثقافي، لكنه اختار أن يكون مقاتلًا لا فنانًا، إذ كان تأثير قصف الطائرات الإنجليزية في أحداث العدوان الثلاثى أقوى كثيرًا من الأثر الباريسي لمدينته العريقة، هكذا التحق بالجيش مصنع الأبطال في عام 1961، وكان لا يزال بعد في الخامسة عشرة من عمره.. وما لبث في سنوات قلائل أن عاد إلى بريطانيا عقب نصر أكتوبر منتصرًا، لينتصر هناك نصرًا جديدًا؛ فقد تفوق على أقرانه في كلية كمبرلي لأركان الحرب، بل ويصبح مدرسًا بها، وكان أول مصري يحصل على هذا التشريف.
 
لا وقت للأحزان
 
حينما قصف العدوان الإنجليزي كل مظاهر الجمال والتحضر في مدينته وأحاله ركامًا، تطلع بأسى وحزن لأطلال مدينته الحبيبة وهو يرافق والده في الطريق للاطمئنان على جدته تحت دوي القصف، وقاسَى شعور الذل والانكسار لدى رؤيته لمحافظ بورسعيد وهو يرفع الراية البيضاء، راية التسليم، فصمَّم على الالتحاق بالجيش بعدما شاهد بطولات شباب بورسعيد في مقاومة الاحتلال ليكون مثلهم.
في 1961 كانت فرحته بالانضمام للكلية الحربية أكثر من أي شيء آخر تحقق في حياته، ربما أشد من سعادته بزواجه وأبنائه وأحفاده؛ لأن التحاقه بالجيش قضية وجودية لديه.. وعندما جاءه خبر التحاقه كضابط جمارك نزفت دموعه وشعر كشعور مَن تفارقه روحه، ثم استرد الروح عندما أخبروه بنقله إلى سلاح المشاة.
 
من سيناء إلى اليمن وبالعكس
 
فصل جغرافي عسكري من فصول الكتاب الدسم.. يتجول فيه اللواء سمير فرج بين سهول سيناء ووديانها ومدنها؛ فهو يحفظها عن ظهر قلب والفضل للتدريبات التي كانت تحرص عليها القوات المسلحة لأبنائها لدراسة الأرض ومحاورها في إدراك بعيد متجذر لأهميتها؛ معرجًا بأسى على تأخرنا في تنميتها، وأن ذلك من أسباب النكسة الحقيقية، إذ لم يكن هناك ظهير شعبي يحمي الجنود أثناء الانسحاب من هجوم الإسرائيليين الخاطف.

من رمال سيناء إلى الباخرة "مصر" إلى ميناء الحديدة فمساكن صنعاء على الجبال، فأكبر شوارعها "جمال عبدالناصر"؛ يحكي الضابط فرج كيف هي اليمن واصفًا ملابس الضباط والجنود وحرارة الجو والطرق الملتوية فوق القمم الشاهقة، وأحوال اليمنيين وطيبتهم، ويعود الضابط الشاب إلى سيناء من جديد، قائدًا لسرية مشاة..

لا تملك إلا أن تتعاطف مع الضابط الفتى ذي السبعة عشر ربيعًا يقود 40 جنديًا ليحتل جبلًا في النهار الثاني من رمضان دون أية تعزيزات ودون طعام وشراب في بداية أيام القتال تلتها أهوال أشد وأصعب.. تلك بدايات سنوات المجد والفخر.. سنوات حرب الاستنزاف.
 
من الهزيمة إلى النصر
حقًا إنها الحرب على كل حال.. وخوضها حتمى.. غير أن الضابط فرج شاء في هذا الفصل أن يوضح الفارق بين أهوال اليمن والخيانة التي تعرضت لها قواتنا هناك، وبين مرارة الهزيمة في حرب يونيو، إنه كالفرق بين العلم والجهل، بين التخطيط والعشوائية، وفي الحالتين القاسم المشترك ثبات الجندي المصري وصلابته وارتباطه بسلاحه كارتباطه بأرضه وعرضه؛ فالمصري لا ينكسر.. قد تتكسر ضلوعه وتتمزق أحشاؤه من الألم والحسرة، على تكلفة الأخطاء لكنه أبدًا لا ينقم على وطنه، ولا يتخلى عن سلاحه، بل سرعان ما يستعيد زمام المبادرة ويحول الهزيمة إلى نصر، درس الهزيمة القاسي والذي أقسمت القوات المسلحة المصرية على عدم تكراره. 

يحكي الضابط الشاب كيف قضى الضباط والجنود 4 شهور نيامًا في العراء لبناء ما تهدم وتصحيح الأخطاء التي قادت إلى انخفاض الروح المعنوية وتدهور الانضباط، استطاع فيها الفريق أول محمد فوزي والفريق عبدالمنعم رياض استعادة زمام المبادرة والانتقال من الدفاع إلى الهجوم على مدار سبعة أعوام من الاستنزاف.

يتابع "فرج" في هذا الفصل الحديث عن أهمية الانضباط وعدم الانفعال في كسب المعارك وكيف أن خطأ جندي واحد قاد إلى تدمير مدن القناة وتهجير سكانها! ويتناول بالسرد عجائب جديدة من رحلة النصر وكيف ابتكر المصريون أدواتهم وطوروا قدراتهم وواصلوا الليل بالنهار، حتى أيام الأعياد كانوا يتدربون، قادة وضباط وجنودًا، وكلهم يردد مقولة الفريق أول "محمد فوزي": "العيد الحقيقي هو عيد تحرير الوطن"
 
نصر أكتوبر.. فخر العسكرية المصرية
ينتظر الشعب المصرى مناسبة حرب أكتوبر كل عام ليستمع لأسرار جديدة عن الحرب المجيدة، ولا يمل أحد سماع حكايات البطولة المشوقة مهما كان ينتمي لأي جيل من الجيلين اللذين أعقبا الانتصار المبهر.

يستغرق اللواء سمير فرج فصلًا من فصول هذا الكتاب ليروي لقرائه كواليس الحرب التي انتظرها ليرسم معالم النصر تحت قيادة الفريق الشاذلي الذي أرسى قاعدة ذهبية للنصر: الأساسية للفريق الشاذلي "حلول مصرية من الموارد المصرية"، فكانت اللنشات الصغيرة التي غيرت مفهوم الحرب البحرية؛ وكانت خراطيم المياه التي غلبت القنابل النووية في تدمير الخطوط الدفاعية؛ وغير حلف الناتو خططه من الدفاع المتحرك إلى الدفاع النشط بعد أن طوَّر المصريون مفهوم معارك الدبابات ووضعوا مبدأ تحييد القوات الجوية، وجاءت معركة المنصورة الجوية بكل تفاصيلها المثيرة لتغير من مجرى المعارك الجوية. 

وكان للمناقشة الديمقراطية العلمية المنضبطة بين قادة الجيش وضباطه أن ساعد "التوجيه 41" الذي وضعه الفريق الشاذلي في حل 122 مشكلة كانت تواجه خطة العبور، تفاصيل تشد الانتباه وتشوقك إلى الاستزادة.

يحلو لصاحب السيرة ذات الشذى العطِر، شذى الانتصار، أن يؤكد أهمية العمل الجماعي في مرحلة الإعداد لحرب أكتوبر وفي أيام الحرب نفسها فذكر دور الجميع بكل حيادية ودقة بدءًا من الرئيس السادات وحتى أكثر من عشرين قائدًا شاركوا في التخطيط لهذه الحرب المجيدة، ومرجع ذلك أنه كان أصغر الضباط الذين التحقوا بهيئة العمليات فشاهد الجميع واستمع لهم وعرف أدوار كل منهم؛ مؤكدًا أنه لم تكن هناك ثمة خلافات بينهم اللهم إلا الخلافات بين الرأي السياسي والرأي العسكري، في إشارة إلى الخلاف الذي وقع بين الرئيس السادات والفريق الشاذلي.  
 
العلم أولًا..
بين دفتي هذا الكتاب الواقع في 450 صفحة من القطع المتوسط، لا ينفك "فرج" عن الحديث عن عشقه للعلم كوسيلة جوهرية في تحقيق طموحه في التقدم والارتقاء لخدمة وطنه، فيذكر عشقه للدراسة والهوايات التعليمية وإقدامه على الدخول في أي ميدان يساعده على ذلك بدءًا من الاشتراك في معسكر كشافة في الفلبين مرورًا بتفوقه في مراحل الثانوية العاملة والكلية الحربية وحرصه على صحبة كل ما يؤهله من كتب وأوراق اختبارات لدراستها حتى أثناء حرب اليمن مرورًا بترشحه لاختبارات كلية الأركان ومحاولته أكثر من مرة حتى حصل عليها بسعيه.. وعندما لم يحالفه الحظ في البعثة الدراسية للهند للدراسة في كلية أركان الحرب المتخصصة هناك فلم ييأس وظل يسعى حتى حصل على زمالة كلية كمبرلي الملكية البريطانية. وهناك أصر على جهد كبير ليحقق التفوق وكان له ذلك وحصل عليها بالمركز الأول لدرجة أنه أصبح المدرس الوحيد من خارج الكومنولث البريطاني في هذه الكلية.
[email protected]

كلمات البحث