إن سُئلت عن لحظة تمنيت لو عاصرتها، فحتمًا هي تمام الساعة السابعة والنصف من مساء هذا السبت البعيد قبل 49 عامًا! حين بث الجيش المصري في أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1973 بيانه الأمجد الذي حمل الرقم 7 مداهمًا العالم: "نجحتْ قواتنا المسلحة في عبور قناة السويس على طول المواجهة وتم الاستيلاء على منطقة الشاطئ الشرقي للقناة". يا إلهي! مهما أعملتُ خيالي، أبدًا لن أستطيع أن أتقمص وجدانيًا حال أي مصري أو عربي أنصت لتلك الكلمات لحظة بثها الإذاعي الأول! ماذا لو كنت حينئذ في الدنيا بكامل إدراكي، هل كنت سأصرخ، سأقفز في الفضاء، سأبكي كالأطفال، سأطوح كل ما فوق المنضدة بيدي من فيض البهجة أم سينعقد لساني من فرط الذهول؟! حقًا لا أدري، الثابت أن الجيش المصري صنع لنا فخرًا أبديًا سيظل حتى عشية أحداث القيامة منتميًا لصنوف تلك الأشياء التي لا تُشترى. من أجل هذا سنظل نحتفي بتلك الأيام.
وسط صخب إقليم يهرول بعض مَن فيه نحو التطبيع، سنظل نحن نحتفل بهذه الأيام، متذكرين مورثين القادمين الجدد بالدنيا أن "الكيان الصهيوني عدو"، وأن مصر حين جنحتْ للتهدئة، فهي لم تجنح إليها انبطاحًا أو خيانة، لكنها نوعت ساحات معاركها المسلحة وغير المسلحة لاسترداد كامل ترابها من بعد قتال طاحن امتد باتساع ربع قرن (1948-1973)، إن الدولة المصرية، ومن بعد توقيع ما أوهمت به خصمها، أنه اتفاق سلام، حققت كل ما استهدفته، ثم خاضت وبكافة أجهزتها معركة قانونية شرسة، لاسترداد آخر كيلو متر مربع على الحدود المصرية الفلسطينية، المعروف باسم "طابا"، حتى استعادته رافعة علمها فوقه في 19 مارس/ آذار 1989. نحن نوقر ذكرى تلك الأيام حتى لا يسهو الأبناء وتغفل البنات وتكون آفة حارتنا النسيان، سنعلمهم أن هضبة عربية في سورية ما زالت منتهبة واسمها "الجولان"، سنحفظهم أن فلسطين محتلة وأن القدس عاصمتها، وأنه ليس من الشرف لإنسان عربي التفاخر بصور عطلته الصيفية على شاطئ "كالياه" بالبحر الميت، أو "الأميرة" في إيلات، أو "دادو" ببحر حيفا! سنخبرهم أن "اشكلون" اسمها "عسقلان"، وأننا كنا وما زلنا ندعم الضفة ونُعمر غزة ونرأب الصدع بين فصائل فلسطين في القاهرة، وأن المدلسين الذين زعموا أن مصر أول مَن خانت القضية، سيكتشفون ذات يوم أن مصر بشعبها وجيشها في هذا الإقليم، هي دولة الممانعة الحقيقية.
كل عام سنظل محتفلين بتلك الأيام اعتزازًا منا بجيشنا. خصومنا يدركون أن قوة مصر من قوة جيشها، هكذا أسسها مُحمد علي وابنه البطل إبراهيم -الأب الروحي للعسكرية المصرية- بانتصاراته المدوية في شبه جزيرة العرب والشام وفوق عتب استانبول، فتحالفت الدنيا مع الأتراك ضد هذا الجيش قصمًا لشوكة مصر بمعاهدة لندرة 1840 وفرمان 13 فبراير/ شباط 1841 الذي استهدف خفض عدد أفراد الجيش إلى 18000 جندي. وماذا فُعل بمصر مع استجلاب الخديو توفيق للمحتل البريطاني، قام الخائن توفيق بإلغاء الجيش المصري عبر مرسوم 19 سبتمبر/ أيلول 1882، لنضل أكثر من سبعين سنة. وبالأمس ماذا فعل "بول بريمر" الحاكم العسكري للعراق عقب سقوط بغداد؟ حلَّ الجيش العراقي في مايو/ أيار 2003، ذهب العراق ولم يعد! هي ذات الهوة التي حُفرت للجيش السوري عقب مطالب شعبية سرعان ما استحالت لاحتراب طائفي! إن ذاكرتنا ليست ذاكرة للأسماك، لذا ما زلنا نذكر كل الفخاخ التي مررنا بها منذ بدء العقد الثاني في الألفية الجديدة وحتى اليوم، نذكر كيف بدأت اللعبة الجهنمية بدس الهتاف الأخطر "يسقط حكم العسكر" بدلًا من "العيش والحرية والعدالة الاجتماعية"، وصولًا لحملات إعلانية استهدفت بين طياتها تأليب الشباب وتشكيكهم بجدوى التجنيد الإجباري والسخرية منه! مَن فعلها يدرك أن التجنيد الإجباري هو العمود الفقري الرئيس والمشرف للدولة المصرية. إن السيناريو الذي حيك لدول من حولنا هو ذاته ما حيك لنا.
المتأمل بالعقد الأخير، رُبما يرى مصر، هذا الجسد القومي، وقد تحتم عليه في لحظة تاريخية بعينها إجراء عملية قلب مفتوح، لكن أحدًا لم يخط الجرح عقب الجراحة! ما دفع كل أعداء هذا الجسد للتجاسر عليه والتسلل نحو جوفه المفتوح، حينئذ قدرت العناية الإلهية لنا جيش مصر الذي أنقذ هذا الجسد وضمد جراحه وأعاد له سابق عافيته وعنفوانه. في النهاية، أنا أؤمن أن خصوم الجيش المصرى وبعيدًا عن أية مهادنات وقتية أو كلام منمق، هم الصهاينة وجماعات التأسلم السياسي والعثمانيون الجدد "ما لم يتخلوا عن أحلامهم المريضة"، أرتبهم هكذا في نفسي من بعد كل مرة أتدبر فيها قطع الماضي المتناثرة، لمَ لا والجيش المصرى هو حارس الفكرة القومية، هو الواقف دومًا حجر عثرة في مواجهة كل ما يُدبر لهذا البلد عبر قوى إقليمية وغير إقليمية. أذكر كل الخونة الذين سخروا منا بالأوقات العصيبة حين كنا نقول: "مش أحسن ما نبقى زي سوريا والعراق"، سخروا منا، لا لشيء، سوى أنهم أرادونا حرفيًا مثل سوريا والعراق، بلا جيش منا يحمينا منهم! جيش عظيم نحتفي هذه الأيام بذكرى نصره ونصرنا جميعًا.
للتواصل مع الكاتب عبر تويتر: twitter.com/sheriefsaid