أخيرا.. وبعد أن جرت في مياه النهر مياه كثيرة، وملوثات لا حصر لها، وبعد أن صبر النهر على إهمالنا له، انطلقت الخميس الماضي، فعاليات أطول حملة لنظافة نهر النيل، برعاية 4 وزارات هي: البيئة، والموارد المائية والري، والشباب والرياضة، والتنمية المحلية، و16 محافظة مطلة على النيل، والمكتب الإقليمي للأمم المتحدة بمصر، وسفارتا النرويج وبريطانيا، والهلال الأحمر، ضمن الاستعدادات لاستضافة قمة المناخ "COP27" من 6 - 18 نوفمبر المقبل بشرم الشيخ.
الحملة تهدف لتنظيف وحماية نهر النيل من التلوث والمخلفات والحفاظ على التنوع البيولوجي المائي، فضلا عن رفع الوعي البيئي بمخاطر تلوث مياهه، وهي الأطول حيث تمتد على مدى طول النهر، ومتوقع أن تنقذ النهر من أكبر عدد من المخلفات بكافة أشكالها وأنواعها، ويتولى الهلال الأحمر تقديم بعض الملاحظات حول احتياطات السلامة، بحضور الضيف الفخري للحملة الدكتور هاني عازر، ثم الفصل بين المخلفات، ومجموعة أكياس النفايات التي تم جمعها، وتسليم المخلفات للشركات لإعادة تدويرها.
لا بأس من الحملة، وحملات أخرى يحتاجها النهر بضفتيه، فبالرغم من أنه تحمل، على مدار التاريخ والحقب والقرون، بما تنوء بحمله الجبال، إلا أنه صابر صامد لم يتوان عن واجباته يوما واحدا منذ آلاف السنين.
لن نكرر ونقرر حقيقة أبدية هي أن نهر النيل هو أحد أهم مقومات الحياة في مصر، بل نكتب ونقول إنه هو أهم مقومات هذه الحياة، وما يتعرض له من محن أو مخاطر، هي في صميمها، تنعكس علي حياة المصريين واستقرارهم اليوم وغدا، ,كما كانت بالأمس، حيث كان واديه وضفته هو كنانة الحضارة للمصريين عبر آلاف السنين.
ما يتعرض له النيل من تلوث وتعدي واعتداء ليس جديدا، لأن ذلك من مراوحة الحياة بين المد والجذر وتعاقب الليل والنهار، لكن الجديد هو أن البعض منا تذكر وتنبه، وله الشكر والتقدير، إلى أن النيل لا ينبغي أن يغيب عن اهتماماتنا يوما واحدا، وكانت الحملة الرسمية والأهلية.
ومبكرا في بداية العام الحالي، أصدر المكتب العربي للشباب والبيئة، برئاسة الدكتور عماد الدين عدلي، وثيقة وميثاق شرف لمواجهة التغيرات المناخية، وكان لنهر النيل جانب معتبر في هذه الوثيقة والميثاق الذي وضعه اجدادنا.
كانت المبادرة بمثابة ميثاق وطني بيئي شاركت في توقيعه مختلف الشرائح والطبقات، ومختلف المهن وبلا تمييز بين جنس أو عقيدة، بأن نحافظ على بيئة وطننا، ونعمل على المشاركة في تحقيق التنمية المستدامة، امتدادا لما فعله أجدادنا، لذلك أتعهد أنا المصري كما تعهد أجدادي القدماء بأنني: "لن أقطع شجرة وسأحافظ على كل نبات، وأبذل جهدي لزيادة عدد الأشجار، ولن ألوث ماء النهر، ولن أسرف في استخدام المياه، ولن ألقي ولن أحرق نفايات، ولن أستهلك أكثر من حاجتي، ولن أسرف في استخدام الطاقة، و لن أتوانى عن استخدام مصادر الطاقة المتجددة، كما أساهم في تشجيع وإقناع المحيطين بفكرة الإنتاج والاستهلاك المستدام".
نعم..نظر الأجداد إلى النيل بعين القداسة، واستخدام مياه النهر للتطهر والطقوس الدينية وغسل المتوفى، وكان الاغتسال بماء النيل ضرورة حياتية مصرية هو نوع من النظافة والتطهر البدني والروحي.
ويشير نص قديم إلى أن: "من يلوث ماء النيل سوف يصيبه غضب الآلهة"، وأكد المصري ما يفيد عدم منعه جريان الماء درءا للخير، كما ورد في الفصل 125 من نص "الخروج إلى النهار "كتاب الموتى".
المثير أن بداية استكشاف منابع النيل تمت عن طريق المصريون القدماء، كما أشار تقرير لـ "BBC"، وتشير الوثائق التاريخية إلى حدوث اتصال ما بين المصريين القدماء ومناطق تقع في جنوب مصر، بلاد "كوش" و"يام" و"بونت"، الأمر الذي يرجح بعض دراية للمصريين بإقليم بحر الغزال، أحد روافد النيل في جنوب السودان، منذ عصور الدولة القديمة، ونتيجة حرص المصريين على التوغل في النوبة والسودان، ظهر رحّالة ومكتشفون في الأسرة السادسة معظمهم من أمراء أسوان جنوبي مصر.
ولأهمية النيل في حياة المصريين القدماء، وضعوا له ما يعرف ب"التقويم النيلي"، الذي يبدأ مع بداية الفيضان، عند وصول المياه إلى منطقة معروفة ومهمة، ويقول العالم الفرنسي نيقولا غريمال في دراسته "تاريخ مصر القديم": "كانت نقطة الانطلاق لتحديد بداية العام الجديد هي قياس ارتفاع منسوب مياه الفيضان، وما يُسجل عند مستوى مدينة منف، وهي الأرض التي شهدت توحيد البلاد وأن الفلكيين المصريين أحصوا عدد الأيام بين كل ظهور للنجم فوجدوها 365 يوما، وقسموها إلى 12 شهرا، كما قسموا السنة إلى ثلاثة فصول تحددت بناء على أحوال النيل.
مهما أخطأنا في حق النيل، فمازال هناك الكثير مما نفعله لتصويب علاقتنا مع النهر الخالد، ولعل الحملة الحالية، تشكل البداية لاعتبار أن النهر مؤشر ومقياس لنظافتنا ونظامنا وترجمة لعلاقتنا الجيدة بالطبيعة وخالق هذه الطبيعة، سبحانه تعالى، المنزل لماء النهر الذي يسري في دماء الملايين من المصريين والعرب والعجم، وبداية طريق يحمل رسالة إلى مؤتمر "COP27"، مفادها: أن المصري على العهد مع أجداده ومع عالمه الحديث.
[email protected]