مثلما حافظت الملكة إليزابيث الثانية على التقاليد الموروثة من عائلتها وشعبها، حافظ البريطانيون على عهدهم معها، ورحلت الملكة ذات الشخصية الأسطورية، لكنها تركت وريثها، ماتت الملكة، لكن عاش الملك، وهى التى منحها الخالق حكما وعمرا طويلين، حققا أرقاما قياسية لعائلتها، بل للعالم من حولها، لم يصل إليه أحد من قبل، والأرقام تقول إنه يصعب أن يحدث بعدها ذلك، فهى ملكة من الأسرة العريقة، حملت رقم 39 من تاريخ ملوكها، تعرضوا للثورات والانقلابات القاسية، والإعدامات والقتل فى الشوارع وداخل القصور وغيرها، لم يهتزوا ولم يهنوا ولم يتخلوا عن مسئولياتهم التاريخية تجاه ملكهم وشعبهم، بل عالمهم، وحكمت 7 عقود هى عمر المملكة المتحدة الحديثة كلها.
إليزابيث الثانية فى حكم الملوك، أسطورة خالدة لا يجود الزمن بمثلها، ترقد اليوم بجوار أجدادها وأسرتها، وتقول لهم: لقد أوفيت بالعهد الذى حملتونى به وأنا صغيرة، ولم أضعف ولم أهن أمام المسئوليات الجسام.
بالنسبة لعالم النساء الأوروبيات وغيرهن، فهى الشابة الصغيرة بنت العشرينيات التى وجدت نفسها فى أتون حرب عالمية قاسية، ولندن وباريس وألمانيا، وكل حواضر أوروبا، تحت وابل الطائرات، لم تتح لها الأيام أن تعيش شبابها وتنطلق، وهى تجد حولها الموت والضحايا بالملايين يسقطون، والأسر تتضور (جوعا وأسى)، والأطفال فى الملاجئ ما بعد الحرب بلا عائل، لا يجدون دواء أو مدارس.
بنت العشرين مسئولياتها جسام لم تتح لها لحظة أن تفكر بما هى فيه، ولا أن تعيش شبابها كما توقعت أو حلمت.
كان يجب أن تكون مع شعبها وأمتها فورا، وتتحمل مسئولياتها دون بطء أو تردد، ووضعوها على العرش بلا تقاليد مكتوبة أو سابقة تهتدى بها، كل شىء مختلف وجديد ومضطرب معا، أو دستور مسطور يحكم حركتها ويهديها إلى القرار أو الرؤية، فكانت بسلوكها وبسياستها وحكمها هى الدستور.
هى التى تسن ما يفعل وما يسطر وما يكتب من قوانين وأفعال، أعطت لإنجلترا أو المملكة المتحدة (الملكية الدستورية الكاملة)، (تملك ولا تحكم)، ولم تكن بعيدة عن الحكم، لكنها كانت مثل الحبل السرى تغذى وليدها بما تملكه، ولا تباهى به أحدا (مع أصعب تلك المعارك القاسية مع شابة أوروبية وريثة أهم عروش الدنيا)، لكنها إليزابيث التى ملكت (السر الكامن) فى شخصيتها الأسطورية الموروثة، ولم تكتف هذه المرأة بهذه المكانة، وقد كانت ومازالت مكانة عظمى (لا يتحملها الكثيرون)، لكنها شاهدت (عصر انتهاء الإمبراطورية التى لم تغرب عنها الشمس)، رأت الشمس تغرب عن ملكها وعن بلادها، ها هم الإنجليز ينحصرون فى جزيرتهم الصغيرة، بعد أن كانوا ملوك الأرض.
شهدت هذه الفتاة الصغيرة التى ملكوها الجزيرة، أو ما تبقى من الإمبراطورية وويلات الحرب وانحسار البلاد ونهاية الإمبراطورية، والأهم ظهرت أجيال جديدة من الشباب الطموح، الذين لا يقبلون بأى شكل ويريدون كل شىء، فهم إنجليز وأبناء القياصرة الذين حكموا العالم “كيف يفكرون”، لكم أن تتخيلوا ما يمكن أن يصيب الناس بعد هذه الكوارث المتعددة والمتعاقبة، ومع ذلك وقفت وراء بلدها وعرشها، وأعادت تأسيس المملكة المتحدة، وجعلتها نموذجا يتطلع إليه الآخرون، لم تسقط الجزيرة التى حكمت العالم بعد انحسار نفوذها، وانتهاء الحقبة الاستعمارية، وضياع الإمبراطورية، أصبحت ملاذا للمعلومات الدقيقة، بل وطنا للعلم الحديث والجامعات والطب، ولا نبالغ إذا قلنا الحكمة والتنوع الكامل، والديمقراطية بلا حدود وبلا انهيارات وتقييمات عالية الجودة، بل إنها استقطبت أفضل العقول الهاربة من مستعمراتها القديمة.
أصبحت لندن “موطن الكومنولث”، بل أحد عواصم العالم المزدهرة، وملاذا لتجمع الهنود والعرب والأوروبيين، بل تجمعاتها الأنجلوسكسونية، هى الأكثر تأثيرا على الدولة العظمى «أمريكا»، وحتى الآن يعزو ذلك ويبرر لعبقرية الإنجليز أو البريطانيين عموما، لكن كان وراءهم امرأة حكمت وذللت الحكمة، وكانت وعاءً للتقاليد والعمل الدؤوب، وحافظت على بلادها وأسرتها، وها هى ترحل اليوم - 96 عاما - وتترك لبلاد الإنجليز والبريطانيين ملكا جديدا بمؤهلات قياسية، لم يسبقه إليها ملوك كثيرون فى التاريخ الإنسانى لإنجلترا أو العالم من قبل.
مثلما تأهل تشارلز الثالث لهذه المكانة، ملك بريطانيا الحالى - 73 عاما - سنوات طوال قضاها فى حجر أمه الملكة العتيدة، وأبوه فيليب، سليل لكل الأسر الملكية الأوروبية الذى سهر طوال عمره على حماية عرش زوجته وأم الملك ابنه، وعرش ابنه “تشارلز”.
وأخيرا تهدأ الملكة وتنام إلى جوار زوجها بعد حياة حافلة لم يسبقها إليها أحد من قبل، بعد أن شهدا كل الأحداث فى القرنين العشرين والواحد والعشرين، بنفس الحماسة والقوة والقدرة على التحليل والفهم واستقراء الأمور، وكتبا لبلادهما تراثا وتاريخا حافلا وإرثا، قلما يستطيع إنسان أن يحققه فى جيل واحد، لأنهما يملكان قدرات إنسانية خارقة.
الطريق مفتوح أمام تشارلز الثالث “الملك” ليعطى العالم وبلاده دروسا جديدة فى الحكم، وفى متغيرات السياسة وعالم الحكم، ويعلم الإنجليز من جديد وهم يعلمون العالم كذلك.