في الثالث والعشرين من سبتمبر/ أيلول الحالي، تحديدًا في الساعة الثالثة وأربعة دقائق من فجر الجمعة القادمة، ستتوهج أرواح محبي الغيوم، لمَ لا والاعتدال الخريفى سيحل على النصف الشمالي من كرة الأرض معلنًا انقضاء هذا الصيف، ممهدًا لسحر الشتاء، أبدع فصول العام، أشفق كثيرًا على مَن يجدون في هذا الموسم مدعاة للاكتئاب!
قريبًا ستستحيل أوراق الشجر إلى اللون البرتقالي وسيُولد البرتقال باخضرار، سوف تهاجر بعض الطيور نحو الجنوب بحثًا عن شمس ساطعة، لكننا لن نغادر رفقة العنادل والسنونو، سنبقى هنا لنرتشف القهوة الفرنسية وسط ضباب العاصمة المصرية في الصباح، نطالع الكتب والتراجم والروايات، منصتين إلى الست "فيروز" التي يبدو وكأن صوتها خُلق ليمتزج في أوردة الإنس بنكهات البُن أو مسحوق الكاكاو أسفل سماوات غائمة! وفي الطرقات سوف نبصر أنفسنا وبشجن بالغ من جديد! لمَ لا والمدارس ستفتح أبوابها، سنرانا في هيئة هؤلاء الصغار الذين يرتدون الأزرق، كنا مثلهم نحمل على ظهورنا الحقائب. حين كنا بأعمارهم رُبما كل ما كان يقلقنا أن أول حصتين في الجدول لمادة "الحساب" البغيضة! ليت "القسمة المطولة" ظلت أقصى همومنا! الشتاء في الباحة الخلفية للذاكرة، أبدًا ليس باردًا أو قاسيًا، إنه دافئ بقدر المرصوص في أرفف محال "بيع المصنوعات وعدس وريفولي"، دفءٌ مرسوم في لوحات بيتية بعيدة، يتكوم فيها الأطفال بأسرتهم مثل كتاكيت ملونة بأصباغ "بيجامات" مصانع غزل المحلة. رُبما يهمس كل خريف قادم في آذاننا "ليتنا ظللنا أبرياء"! يا ليت كل ما دار، ما دار! لكنها سُنة الحياة وشغف الأعمار بقادم الأقدار!
في مثل هذا الخريف القادم وتأهبًا للجامعة قبل أكثر من ربع قرن، كنا نشتري "القمصان المُشجرة" من شارع "الشواربي" باعتبارها الأروع على الإطلاق لكننا اكتشفنا فيما بعد أنها فقط كانت الأروع في دواليبنا! كل القمصان ذهبت وظلت بهجة الذكرى! في تلك الليالي البعيدة كنا نتقمص "نزار قباني" وندون القصائد بلا رادع، لكنها كانت ركيكة، كنا نكتب القصص القصيرة متقمصين "يوسف إدريس"، كانت قصيرة لكنها لم تكن قصصًا، كل المكتوب حقبتئذ بصدق وسذاجة ورقة أبدًا لم يكن أدبًا، بقدر ما كان "نحن"! نعم نحن كنا نكتب أنفسنا على الورق على ضوء مكسور، مخدرين بصوت الست "حنان ماضي" وهي تغني "لما الكون بينام"، كلمات الأغنية بسيطة لكننا نتذكرها الآن كنصب تذكاري في أرواحنا لسيرة كل الحنان وكل الماضي! كنا مفعمين بحلو الآمال الأولى، مُلهَمين بنقر المطر على زجاج نوافذ بيوت وسط المدينة، التي كنا وما زلنا نراها في الخريف والشتاء أبدع من أي وقت آخر، فعندما يتوارى القرص الأحمر للشمس من وراء المتحف في ميدان التحرير ويأتي المساء، نرى بعضهم يعبرون مع شريكاتهم جسر قصر النيل ممسكين بمظالهم الملونة أسفل رذاذ سحب حمراء مثل حلوى قطنية نثرها الرب لنا في السماء، هنا يجب أن نتمهل كثيرًا لتستنشق أرواحنا أكبر قدر من نكهات الدنيا الممزوجة بذكريات كل القبلات التي تبودلت في ذات المكان مستقرة على شفاه المحبين بستر من النهر وتواطؤ كل المارين! كل هذا على وقع موسيقى "البوليرو" القادمة بتصاعد مدبر من نوافذ تلك البناية الدافئة البيضاء التي هناك، يا إلهي! وكأن "موريس رافييل" قد وضعها خصيصًا ذات يوم دون أن يدري لهؤلاء الحالمين الذين يعبرون ببطء هذا الجسر إلى بوابة دار الأوبرا، متسائلين مبكرًا عن مواقيت عروض بحيرة البجع وكسارة البندق قبيل صخب أشجار الكريسماس واحتفاءات عيد الميلاد، مترقبين أخبار مهرجان السينما في القاهرة وأنباء معرض الكتاب. من أجل هذا وأكثر تتوهج أرواحنا مع مبتدأ الخريف، من أجل هذا وأكثر نحب الشتاء.
للتواصل مع الكاتب عبر تويتر: twitter.com/sheriefsaid