الكتابة الأدبية تُعدّ من أشق الأعمال وأكثرها صعوبة، ليس فقط بسبب احتياجها للوقت وبذل المجهود العقلى والدأب والصبر لإنجاز العمل الروائى الذى يستغرق أشهراً طويلة، بل السبب الأهم هو قلة القارئين والمهتمين بهذه الأعمال والمقدِّرين لها، إلى جانب كثرة المنافسين والمثبِّطين من أعداء النجاح، لهذا لا ينتهى عمل الأديب بالنجاح فى طباعة عمله الأدبى، بل هنا بالضبط تبدأ متاعبه!
وعندما ينجز الأديب عمله الأول قد يصور له خياله الحالم أن حياته كلها تغيرت؛ فغداً تنهال عليه العروض من دور النشر والصحافة، وتنعقد الندوات من أجله فلا تنحل، ويُقبل عليه الجمهور طامعاً فى توقيع بخط يده على كتابه الذى طبقت شهرته الآفاق، إلا أن الواقع المرير يدمر له كل تلك الأحلام.
فالعمل الأول، وهو الأشد قرباً من قلب الأديب بالضرورة، عادةً ما يحمل معه أكبر إحباط.
هنا تذهب السكرة وتأتى الفكرة، ويبدأ الكاتب فى تلمس أسباب الإخفاق، وهو ما ليس بإخفاق أبداً، بل هو رد الفعل الطبيعي تجاه العمل الأول لأى كاتب، غير أن الكاتب يُصِر حينئذ على اعتباره إخفاقاً فيتصرف من منطلق رغبته فى إثبات ذاته ومقدرته الأدبية، فيلجأ إلى تعديل خطته الأدبية واتجاهاته لتناسب ما يطلبه الجمهور، سواءً جمهور النقاد أو القارئين، هكذا يأتى العمل الثانى مختلفاً ومغايراً لاتجاهات وأفكار العمل الأول، ثم تأتى فترة من التوقف لانتظار ردود الفعل تجاه العمل الجديد، يليها القرار باستكمال المسيرة أو التوقف النهائى أو المؤقت.
وفى العادة يلجأ الكاتب خلال تلك الرحلة الشاقة لالتماس الرأى التقييمى لأعماله: هل أعجبت القراء؟ هل انتصف لها النقد؟ ماذا عن الجوائز؟ هل تستحق أن تنال جائزة؟ ماذا لو تقدمت لإحدى المسابقات ثم لم تنل جائزة؟ وهل كل المسابقات منصفة؟ أليست أكثرها مزورة ومصطنعة؟
مبيعات الكتب الأولى للأديب قد تحمل له مؤشراً ما، لكن المشكلة أن الناشر عادةً لا يكلف نفسه بإخبار المؤلف عن حجم تلك المبيعات، بل من مصلحته ألا يفعل، حتى يخفى حجم مكسبه.
السؤال هنا: هل عبرَت تجربة الكاتب الروائي (خالد إسماعيل) عبْر تلك المراحل أم أنها تجربة خاصة ومختلفة؟ والسؤال الأهم: ما هو الباعث القوى والخفى الذى يستحث الأديب على الاستمرار رغم كل تلك المتاعب؟!
أبعاد التجربة:
إذا كانت المسابقات والندوات والآراء النقدية والصدى الجماهيري، كلها أشياء لا تكفى للحكم على أديب ما بأنه من أدباء الصف الأول أو الثانى، فما هو الفيصل الحقيقي والمعيار القياسي لمعرفة موقع الأديب على الخريطة الثقافية؟ هل هو حجم عطائه الأدبي، وكَـمّ إنتاجه الثقافى؟ أم مدى شهرته الإعلامية؟ هل من الضرورى أن ينال الأديب جائزة دولية؟ أو تُترجم أعماله للغات أجنبية؟ أم لا بد أن تتبنى السينما أعمال الأديب حتى يشتهر ويعرفه الناس؟ وهل روائي السينما هو الأفضل حقاً أم الروائى صاحب الرسالة؟
لقد قرأت للكثيرين من أدباء مصر والعرب المعاصرين والقدامَى، والرأى عندى أن (خالد إسماعيل) يستحق عن جدارة أن يحمل مشعل الريادة لأدب الصعيد على الأقل؛ لاعتبارات كثيرة أهمها:
1-المسئولية والرسالة: خالد إسماعيل ليس مجرد أديب عادى، فهو قدم للمكتبة العربية اثنتي عشر رواية ومجموعتين قصصيتين ذات رسالة وهدف، لقد اختار تيار الواقعية عن سابق عمدٍ وفهم وثقة بقدرة أدب الواقع على نقل صورة فنية ذات أثر تاريخى وتأصيل، تماماً كنجيب محفوظ عندما استطاع تأصيل واقع الحارة المصرية خلال حقبةٍ ما.
تلك رسالة تراثية لا بد أن يتصدى لها أحد من منطلق شعوره بتلك المسئولية التاريخية.
2. عمق التجربة الإبداعية: فلم يكن خالد إسماعيل متعجلاً لكتابة ونشر تجاربه الأدبية، لم يتعجل ولم يختر الطريق السهل، بل ثابر وانتظر ليخرج بعمل ناضج قادر على المنافسة والتأثير.
3. التمكن والكفاءة: أثبتت التجارب الأدبية لخالد إسماعيل أنه روائى ومبدع من الطراز الأول. وأن لديه مخزون طاقة إبداعية لم يسفر بعد عن كل ما فى جعبتها من قدرات وأسرار.
4. الصدق الفنى: فقليلاً ما تجد أديباً لديه من الدأب والحماس والإصرار ما يجعله قادراً على مواصلة الطريق الصعب الشائك، طريق الفن والأدب.
5. المرونة والتطور: تشير تجربة الروائي خالد إسماعيل الإبداعية إلى تمتعه بقدر كبير من الإصرار والدأب بما يجعله قادراً على التكيف مع المستجدات، وتطوير أدواته الأدبية طبقاً لرؤية تقييمية خاصة يجددها ويطور حيثياتها من منظوره الخاص.
[email protected]