راديو الاهرام
10-9-2022 | 20:48

تميزت "إليزابيث" ملكة بريطانيا الراحلة، بوجوه متعددة، تنوعت ما بين الصرامة المفرطة، للمحافظة على تقاليد ومواريث العائلة الملكية، والذكاء الشديد في تعاملاتها الرسمية وغير الرسمية، والثبات الانفعالي في مواجهة اﻷزمات التي صادفتها على مدار سبعة عقود جلست خلالها على العرش البريطانى، والبساطة المنضبطة، حينما كانت ترغب في إبراز وجهها الإنسانى، عند الضرورة.

لكن التمعن والقراءة المدققة والمنفتحة لسيرتها الذاتية من حقبة ريعان شبابها، حتى وفاتها، تبرز الوجه اﻷهم والمؤثر لهذه الشخصية التاريخية الفذة، من وجهة نظري البحتة، وهو أنها لم تضبط يومًا تتهرب منِ مجابهة التحديات المصيرية وأعبائها وتوابعها الثقيلة، ولم تضعف، أو تلن أمامها، وقدمت دروسًا في القيادة اﻵمنة الهادفة للحفاظ على المصالح العليا للأوطان في كل وقت وحين.

رب قائل يقول إن الوجه اﻷخير واجب محتوم ولا فكاك منه لمَن يُمسك بين يديه بعجلة القيادة، بما في ذلك الحالة البريطانية التي يملك فيها الملك ولا يحكم، وذاك من الناحية النظرية رأي سديد وصائب، لكنه على الجانب العملي ليس كذلك، ودعني أوضح هذه النقطة ﻷهميتها ودلالتها.

توضيحي سيكون عبر الإشارة لنموذج حديث العهد، وخبرناه جميعًا، هو الرئيس اﻷمريكي السابق دونالد ترامب، والذي امتلك الصلاحيات الكاملة والشاملة المرتبطة بالحكم في الولايات المتحدة، حيث اتسم عهده بالهروب من التحديات والاستحقاقات الماثلة بأساليب طغت عليها الغوغائية والعنتريات والتجاوزات اللفظية، أكثر من الاتزان والتعقل والتصرف بحكمة وتروٍ المنتظر اتصاف القادة بها.

وما إن استشعر ترامب قرب رحيله من البيت اﻷبيض حتى عمد إلى تأليب الرأي العام، وبث الفتن بين جموع وفئات اﻷمريكيين، وإذكاء العنصرية، وحرض مَن شاركوه أفكاره على الإتيان بفعل غير مسبوق بالتاريخ اﻷمريكي تجسد في اقتحام المؤسسة التشريعية "الكونجرس"، لمنعه من إعلان فوز منافسه جو بايدن، بالرئاسة، وكادت البلاد تنزلق لحرب أهلية بغيضة، لولا تدخل العقلاء ومؤسسات الدولة للحيلولة دون ذلك، وبلغ شطط ترامب مبلغه باستيلائه على ملفات سرية وإيداعها منزله في كاليفورنيا، وكأنها منقولات خاصة يحق له الإبقاء عليها في خزانته دون مساءلة.

وشتان ما بين القائد المسئول الواعي، والقائد المنفلت عياره، وهو ما جسده ترامب من سلوك غير منضبط في لحظة مفصلية دقيقة، وبين ما تحلت به "إليزابيت" من صلابة وقوة مقابل تحديات معقدة، للعبور ببلادها لبر اﻷمان والسلامة وعدم تهديد السلم الاجتماعي، منها على سبيل المثال، تحول بريطانيا من إمبراطورية عظمى تحتل أجزاءً كبيرة من كوكب اﻷرض، إلى دولة عادية تجتهد للبقاء بين الكبار على الساحة الدولية، وما تعرضت له العائلة الملكية من فضائح وموجات عاتية تطالبها بالتحديث والخروج من عباءة الجمود والتصلب، ولم تتردد في حرمان نجلها اﻷمير "أندرو" من ألقابه ومكانته الملكية وتجريده منها، بعدما ثبت تورطه بفضيحة جنسية، وقصة حفيدها "هاري" وزوجته اﻷمريكية "ميجان"، وخروجهما، أو إخراجهما من الأسرة الملكية.

فاقتحام المشكلات ودراستها من كافة جوانبها المنظورة وغير المنظورة للناس، وعدم الخوف من الوقوف في وجه التحديات، مهما كانت جسامتها، سمة أصيلة ولصيقة للقادة الساعين لحماية بلادهم وشعوبهم من اﻷخطار والمكائد، وهؤلاء لا يُخفون ويحجبون الحقائق ويُكاشفون بها مواطنيهم، لكي يكونوا على دراية تامة وكاملة بما يتعرض له وطنهم من محن وعثرات، ويدركوا ما عليهم من مسئوليات وواجبات.

هذه المكاشفة غرضها التبصير واليقظة، فما أكثر النافخين في النار، والمدلسين الذين يقلبون الحقيقة، ويروجون الشائعات واﻷكاذيب، ويُشككون في كل شيء، صغيره قبل كبيره، ويهيلون التراب على ما يتم إنجازه، وتراه العين المنصفة، ولا يقنعهم سوى تفسيراتهم ورؤيتهم لما يدور، ويسفهون كل ما يقع خارج دائرة رؤيتهم المعوجة والمغرضة، بل والمدمرة.

لذلك فإن الانتباه والحرص واجبان، لأن تلك الفئة المضلة والناشرة للضلالات والأباطيل ليست فقط معوقة، لكنها مخربة، ويُنعشها مناخ الفوضى والانفلات وانعدام المسئولية، وهم متخصصون في تدمير اﻷوطان وإشعال الحرائق بها، ولا يلتف حولهم إلا مَن على شاكلتهم، ولا يبغي خيرًا لوطنه.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: