كان فنان الشعب خالد الذكر سيد درويش يركب عربة حنطور صباح يومٍ ما مع حوذي (العربجي) لا يعرفه، فسمع الحوذي يُنادي على زميل له في الاتجاه المقابل ويدعوه إلى سهرة في بيته الليلة؛ بمناسبة سبوع ابنه، فسخر منه زميله قائلاً: "يعني مسهر الشيخ سيد يا أخي؟!" وتضاحك الزميلان وانصرف كلٌ إلى سبيله، فحاول الشيخ سيد أنْ يحتال على هذا الحوذي ليعرف عنوان بيته، وهو ينوي أن يُحيي ليلة الطفل ليلاً بالفعل.
موضوعات مقترحة
الشيخ سيد درويش
وفي الوقت المناسب كان درويش ينتقل من حارة إلى حارة، ومن زقاق إلى زقاق في الحي الشعبي الذي كانت تسكنه طائفة العربجية، حتى وصل إلى بيت فقير عليه تعاليق متواضعة، ليندهش الحوذي؛ لأنّ الأفندي الذي كان يركب عربته في الصباح قد جاء إليه في المساء، وهو يحمل عودًا، وما إنْ علم أنّ هذا الرجل هو سيد درويش، حتى قفز من الفرح على أكتاف الشيخ سيد وظلّ يُعانقه ويُقبله، ثمّ تركه وراح يصيح في الحارة كالمجنون، بأنّ سيد درويش سيُحيي ليلة ابنه، وما هي إلا لحظات، حتى تدفق الناس من كل فجٍّ عميق، أفواجًا بعد أفواج، وأصبح الحي كله كأنه في عيد، وجلس سيد درويش بين الناس البسطاء يغني لهم، ويُحفظهم ألحانه حتى بعد مطلع الفجر.
الشيخ سيد درويش
كان هذا سيد درويش الإنسان، الذي كان مُحبًا للطبقات الحرفية من الشعب، وكان دائم الالتصاق بهم؛ لعلمه أنهم مصدر الوحي لألحانه لما طُلب منه أن يضع لحن "السقايين" في مسرحية "ولو"، كان يسهر حتى مطلع الفجر، وهو الوقت الذي ينهض فيه السقايين إلى عملهم قبل الشروق ويأخذون في الغدو والرواح في "حي السقايين"؛ من أجل السعي على أرزاقهم فيتبعهم في ذهابهم ومجيئهم وهم ينادون "يعوض الله.. يهون الله"، ثم يخلو إلى نفسه فينقل بلحنه إلى الآذان ذلك الجو بكل ما فيه من تفاصيل واقعية حتى أنّ الذي يسمع اللحن يشعر وكأنه انتقل معه لحارة السقايين حين جلس يسمعهم وهم يعملون.
الشيخ سيد درويش
ولما وضع لحن "المغاربة" وفي هذا اللحن المغربي كان يشتم ويثور، ذهب إلى حي الفحامين ونادى أحد الغلمان، وأعطاه قروشًا بعد أنْ أوصاه بمعاكسة أحد المغاربة؛ لكي يشتمه، فإذا شتمه المغربي تدفقت من فمه اللهجة الأصيلة والنغمة المطلوبة لما يُريد وضعه من ألحان مناسبة للمسرحية. وفي دور "تشوف البخت" تتأكد أنه سأل كل "غازية" قابلها أن تشوف له بخته وتُغنيه شيئًا من عندها، قبل أنْ يضع هذا اللحن، وعندما لحن "يا حلاوتك والقفص على كتفك" وهو لحن "الفرارجية" في رواية "أم 44"، كان يذهب إلى سوق الاثنين في حي الناصرية؛ ليسمع من الفرارجية أنفسهم "لغوتهم" وطريقتهم في البيع والشراء. حتى لحن "والله تستاهل يا قلبي" لم يكن لحنًا رومانسيًا عن فقده الحبيبة أو معشوقته، كما يتنامى إلى البعض عند سماع تلك الأغنية الشهيرة، بل كان لحنًا حزينًا قبل أنْ تكون كلماته كذلك، وقد كان ينعى فيه وفاة شقيقته، لكنه استطاع أنْ ينقل الأجواء الحزينة بكل تفاصيلها، وقد كان اللحن يتحدث قبل الكلمات عن حالته تلك.
الشيخ سيد درويش
ولهذا كان الشيخ سيد مُعتزًا جدًا بألحانه، من ذلك أنه ذات مرة كان مُفلسًا، ومعه صديقه الكاتب الكبير بديع خيري، فصادف وجود نوتة لحن جديد من ألحانه، فقاما بالذهاب إلى محل (ميشان) صاحب شركة أسطوانات معروفة في ذلك الوقت؛ ليبيعاه اللحن، فعرض عليهما عشرين جنيهًا، فأشار عليه بديع أنْ يقبل، لكنه وجد أنّ القيمة المعروضة لا تناسب مكانته فما كان منه إلا أنْ مزق اللحن أمام صاحب الشركة وخرج غاضبًا، ومن المفارقات أنه ترك حفل زفافه؛ ليجلس في قهوة على النيل حتى الفجر يُدون نوتة ألحان واحدة من مسرحياته، لهذا كان هو وسيظل خالد الذكر فنان الشعب سيد درويش.
الشيخ سيد درويش
د. يسرا محمد سلامة
أستاذ مساعد التاريخ الحديث بالجامعة الإسلامية بمنيسوتا
عضو اتحاد المؤرخين العرب