عرفنا الكثير من المدن الجديدة في تاريخنا الحديث؛ مثل مصر الجديدة عام 1905، ومدينة نصر عام 1954، ثم حديثًا نسبيًا في مدن الجيل الأول التي بدأ تأسيسها بعد نصر أكتوبر 73، مثل مدينة السادات، والعاشر من رمضان، و15 مايو، وبرج العرب الجديدة، و6 أكتوبر، ثم مدن الجيل الثاني في الثمانينيات، مثل: بدر، العبور، بني سويف وغيرها، وفي التسعينيات كانت مدن الجيل الثالث، مثل: زايد والشروق، والقاهرة الجديدة، والامتداد في الظهير الصحراوي للمدن، مثل أسيوط الجديدة وغيرها..
ودخلنا في الألفية الجديدة إلى مدن الجيل الرابع والتي تشمل: العاصمة الإدارية الجديدة والمضي في التوسع بفضاءات مدن قديمة في الدلتا والصعيد، والنموذج الأحدث في الجيل الرابع هما مدينة العلمين الجديدة والعاصمة الإدارية الجديدة، وتشير الدلائل إلى أكثر من وظيفة لمدينة العلمين الجديدة، على رأسها الوظيفة السياسية، كمقر صيفي للحكومة، ومدينة مؤتمرات سياسية رفيعة المستوى، كما شهدنا في القمة الخماسية العربية الأخيرة، ومدينة جذب سياحي واستثماري أيضًا..
أما العاصمة الإدارية الجديدة، فقد اقترنت بفكرة طرحها الرئيس السيسي قبل ست سنوات، واعتبر أخيرًا أن افتتاحها هي والمدن الجديدة ليس امتدادًا عمرانيًا فحسب، وإنما نقطة انطلاق في "ميلاد دولة جديدة وإعلان جمهورية ثانية"، ويأتي الانتقال الوشيك للحكومة إلى العاصمة الإدارية الجديدة ليفتح النقاش حول نوع الانتقال المنتظر، وعما إذا كان مجرد انتقال في المكان، أو نقلة في الدور والوظيفة.
وما لم تكن هناك فكرة جديدة وراء العاصمة الإدارية فإنها ستكون مثل المدن الجديدة الأخرى بأجيالها الأربعة، وبما لها وما عليها، وبما اكتسبه البعض منها من سمعة وثقة، وما لم ينله البعض الآخر من الشهرة والصيت..
ويغيب عن كثيرين فكرة الانتقال والغرض منه، وعما إذا كانت العاصمة الإدارية هي عاصمة جديدة، تتحول معها القاهرة إلى أهم المدن، في الوقت الذي يجري استخدام غير واضح للمصطلح، ما بين "جمهورية جديدة" أو "جمهورية ثانية".
ويطرح الدكتور أحمد عبدالظاهر أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة المسألة بجدية وحرفية عالية في كتابه الصادر أخيرًا عن "مركز الأهرام للترجمة والنشر" تحت عنوان "الجمهورية الثانية من الديستوبيا إلى اليوتوبيا" وعنوان فرعي يشي بالتخصص وبالغرض هو (مرحلة الانتقال الديمقراطي في ضوء القانون والخبرات الدولية).
ويبدو من العنوان أن المؤلف يثبت مفهومه للجمهورية الثانية بأنها انتقال من "الديستوبيا" وتعني المدينة الفاسدة، إلى "اليوتوبيا" وتعني المدينة الفاضلة، ويجمع الكتاب مقالات منشورة في الصحف، أعاد المؤلف صياغة غالبيتها، لمزيد من التوضيح والتدقيق الأكاديمي، وخلال الفصول الخمسة من الكتاب، نلحظ الإصرار على طرح قضايا وآليات عملية الانتقال الديمقراطي الجارية في مصر من وجهة نظر قانونية، وهو ينتصر دائمًا للتشريع الذي لولاه ما استقامت الحياة.
إذ يعتبر د.عبدالظاهر أن "الجمهورية الثانية" هي "جمهورية جديدة" ويمكن رصد ملامحها في مبادئ عدة على رأسها العدالة والحق في الممتلكات العامة، وربما بدأ بالتعامل مع المواطن واحترام حقوقه، مثل الحق في الشواطئ، ودلل عليه بمشروع ممشى أهل مصر على كورنيش النيل في القاهرة، وكورنيش مدينة العلمين الجديدة بطول 14 كم (وهو نفس طول كورنيش الإسكندرية)؛ بحيث تضم المدينة شواطئ عامة كافية، ولم تكن هذه فلسفة بناء الساحل الشمالي الذي تأسس بشكل مغلق على قراه وسكانهم بما يسبب حجب الساحل عن المارة.
ويذهب د. عبدالظاهر إلى أهمية "صندوق مصر السيادي" الذي نشأ عام 2018 والذي يتمتع بشخصية اعتبارية لا تتقيد بالقواعد والنظم الحكومية (أموال مملوكة للدولة ملكية خاصة)، ويذكر المؤلف أن الصندوق السيادي الكويتي هو أقدم صندوق في العالم (عام 1953)، ثم جاء صندوق إمارة أبوظبي (عام 1967)، ثم السعودية (عام 1971)، ثم النرويج (عام 1990) ثم اتسع نطاق انتشار الصناديق السيادية عبر العالم، وصولا إلى البحرين وإمارة دبي (عام 2006).
من الملامح التي جذبت المؤلف إلى الجمهورية الجديدة، الأفكار الخاصة بالحكومة المتنقلة، التي تقدم فيها الحكومة الخدمات المتنقلة للمواطنين، كسيارات متنقلة للخدمات الشرطية، كفكرة المكتبة المتنقلة في بدايات حكم مبارك، وكذلك قطع أشواط طويلة في تنفيذ المشروع القومي للطرق والثورة في مجال النقل.
وإذا ذهبنا إلى أبعد من الملامح والمبادئ الرئيسية، فإن د. عبدالظاهر يشرح أن العاصمة الإدارية الجديدة هي أحد المشروعات القومية الكبرى، وتم التخطيط لكي تكون مقرًا لرئاسة الجمهورية والبرلمان والوزارات المختلفة، وكذلك السفارات الأجنبية.
إذن فإن العاصمة الإدارية الجديدة عند د. عبدالظاهر لن تزيح أو تسحب من القاهرة مركزها السياسي والثقافي والاقتصادي والتاريخي، ولا تستطيع، وإنما لها أهمية اقتصادية وعمرانية وتساهم في دخول مصر عصر المدن الذكية، ويدار فيها الحكم، ويطالب المعنيين بالتركيز على أن تكون عاصمة إنسانية، بالتركيز على جودة الحياة بها، وعلى الإنسان الذي يحفظ ويطور وينمي ويبني، لأن "الجمهورية الجديدة لن تختلف عما كانت عليه الجمهورية القديمة بمجرد الانتقال المكاني وإنما بالانتقال الحضاري".