وقع العراقيون في المحظور بإراقتهم دماء بعضهم البعض، وأدخلوا وطنهم النازف بغزارة فى دوامة رهيبة ستجهز على البقية المتبقية من أمنهم واستقرارهم المتداعي، والمحتجز رهينة لسلسلة متواصلة من تصفية الحسابات، والمصالح الطائفية والعرقية، التي فتحت بابًا واسعًا لاستغلالها وتوظيفها من قبل قوى إقليمية ودولية متصارعة على جثث الأوطان وأشلائها.
إن ما يدور الآن بالعراق مؤلم وقاس ويبعث على الحزن لأبعد الحدود، وكيف لا ونحن نرى بلدًا عريقًا كبلاد الرافدين غارقًا في بحور الميليشيات المسلحة، التي تستسهل الاحتكام إلى الصواريخ والمدافع الرشاشة عند حدوث أي خلاف عابر، ومهما كان بسيطًا وتافهًا.
وبما أن المصائب لا تأتي فرادى، فإننا إزاء طبقة سياسية ضيقة الأفق، لم تتورع ولم تخجل من استنزاف البلاد والعباد والتلاعب بهما، وإعلاء الولاءات الطائفية والعرقية على الولاء الوطني، وجراء ذلك الوضع المنفلت، ساد العناد بين الفرقاء والأشقاء المتحاربين، مما أوصل العراق إلى نقطة الانفجار والصدام بين مكونات المجتمع دون رادع، أو بشائر تلوح، ولو من بعيد، عن قرب بزوغ شمس الانفراج والوئام.
وسط كل هذا، أضحى المواطن العراقي أسيرًا ومغلوبًا على أمره، وبات وقودًا لحروب الميليشيات الراكضة بعنفوان نحو كرسي الحكم، وأضوائه الزاهية الساطعة، وأيضا منافعه الجمة التي لا تعد ولا تحصى، وعانى المواطن المطحون أشد معاناة من فساد وتصلب طبقته السياسية، وإهدارها موارده الثمينة في نزاعاتهم ومعاركهم، وللأسف، وبسبب تصرفاتهم ومواقفهم غير الحصيفة انقلب العراق من منارة حضارية وثقافية وإنسانية يُضرب بها المثل، إلى نموذج "للدولة الفاشلة"، بعدما قوضت – بفعل فاعل – البنية التحتية للدولة الوطنية.
وتكمن الأزمة الحقيقية والمستعصية لهذا البلد الشقيق في افتقاد ساسته الرشادة والحكمة والاتزان، وتغليب المصلحة الوطنية على مصالحهم ومشاريعهم الخاصة، والعمل على الحيلولة دون انزلاق العراق – لا قدر الله – إلى مستنقع حرب أهلية لا تبقى ولا تذر، ستتحمل الأجيال القادمة مخلفاتها وإرثها البغيض، لا سيما وأنها ستدور رحاها تحت لواء نصرة الطائفة والعرق، والشعارات الدينية المبررة لخوضها وتأجيجها، ولن يجدي معها الاعتذار عن التسبب في وقوعها، أو دعوات التهدئة بعد وقوع الواقعة.
فهل هؤلاء الساسة ومعهم مراجعهم الدينية التي تحدد للأتباع المسارات والدروب المتعين عليهم السير فيها هم المسئولون عن وزر وجريمة ما آل إليه العراق من ترد وفوضى وانهيارات؟
لا يوجد شك، ولو ذرة واحدة، فى مسئوليتهم، ولا أعذار تعفيهم منها، لكنهم ليسوا وحدهم الجديرين والمستحقين للوم والتقريع والمحاسبة، حيث يسبقهم بمراحل آخرون، يتقدمهم الولايات المتحدة التي أعملت معول الهدم في مؤسسات وأركان الدولة الوطنية، حيث حلت الجيش الوطني العراقي، وقامت بتسريح الآلاف من موظفي الدولة الأكفاء وتعويضهم بآخرين لكسب الأصوات الانتخابية، حتى وصل عدد موظفي الحكومة إلى 6,5 مليون موظف خلال عشر سنوات، ويذهب 70% من الموازنة كرواتب لهم، وتغذيتها الانقسامات الطائفية والعرقية، وساهمت بسياساتها الهدامة في تأسيس تنظيم داعش الإرهابي الذي استولى لفترة على عدد من كبريات المدن العراقية قبل أن يتمدد بدول الجوار والبلدان الأوروبية.
لقد دمرت واشنطن عن عمد العراق، عقب احتلاله في 2003، ويعزى إليها الفضل في تهيئة مساحات كبيرة من الفراغ بالساحة العراقية سهلت تزايد النفوذ والتوغل الإيراني، وانتهزت طهران الفرصة السانحة واستغلتها كما ينبغي ويكون، حيث أسست ميليشيات شيعية مسلحة تدين لها بالسمع والطاعة، وبررت خطواتها بأن الشيعة معرضون للخطر وعليهم حماية أنفسهم ممَن يهددهم من الطوائف والأعراق الأخرى، وخاضت أمريكا وإيران صولات وجولات من التنافس والصراع على الأراضي العراقية التي استباحت واشنطن وطهران سيادتها مرارًا وتكرارًا.
ولم يعد العراقيون هم أصحاب القرار والقول الفصل، لتحديد مصير ومستقبل بلدهم، فقد ارتضت بعض قياداتهم وسياسييهم بأن يكونوا أدوات تنفيذية طيعة لجهات خارجية، حتى إنهم عجزوا عن تشكيل حكومة على مدى أشهر تلت الانتخابات البرلمانية، لأن العاصمة الفلانية تريد فلانًا رئيسًا للوزراء، بينما تعارض عاصمة أخرى شغله المنصب، وأصبحت الجبهة الداخلية منقسمة وحائرة، ولا تعثر على مَن يراعيها ويهتم بها وبأحوالها، ويجتهد لإغاثة الملهوفين من العراقيين العاديين، ويلبي مطالبهم المشروعة والأساسية في الحياة الكريمة والأمن الذي بات مفقودًا، نتيجة انتشار السلاح في يد الصغير قبل الكبير، والكل يأخذ حقه وثأره بيده.
ونأمل في أن يعمل عقلاء العراق على إرجاع البلاد خطوة للوراء من طريق العنف والفوضى المرعبة، وأن يحافظوا عليه، ويستعيدوا دولتهم الوطنية التي نسفها الأمريكيون والإيرانيون بغلظة وتهور ولم يعاقبهم أحد، وحينما ضاق عليهم الخناق في بلاد الرافدين هربوا منها تاركين المركب تغرق بمَن فيها، وليعيش هذا البلد في ظل كابوسه الفظيع.