راديو الاهرام

داريا الروسية.. وفرانز النمساوي

31-8-2022 | 14:12
الأهرام العربي نقلاً عن

مساء السبت 20-8-2022 لا يشبه أي مساء آخر من أي يوم سبت مر على العاصمة الروسية موسكو.

كان مساءً داميًا ومؤلمًا، سيفصل بين زمانين ومكانين، أصيبت فيه القيادة الروسية بوعد دموي نادر، راحت ضحيته داريا دوجين ابنة الفيلسوف الاجتماعي والمنظر السياسي الروسي ألكسندر دوجين.

ومع الاتهام الروسي الرسمي للأوكرانية ناتاليا فوفك ”43 عامًا” باغتيال داريا، واتهامها بأنها تنتمي إلى كتيبة أوزوف المصنفة إرهابية من قبل روسيا، فإن المسألة الأوكرانية تتخذ أبعادًا واسعة وخطيرة، ومع هروب فوفك إلى دولة أستونيا، حسب أجهزة الأمن الروسية، فإن عملية داريا تستعيد أجواء مصرع ولي العهد النمساوي، فرنز فرديناند في يونيو عام 1914 على أيدي ستة أشخاص ينتمون لجماعة اليد السوداء، وتسببت في اندلاع الحرب العالمية الأولى.

كان الوعد الدموي مجهزًا للأب دوجين، عقل فلاديمير بوتين كما يزعم الغرب، لكنه نجا مصادفة، فلم يستقل سيارته كالمعتاد في ذلك المساء الدامي، واستقلتها داريا لتواجه مصيرها وحيدة.

داريا دوجينا (29 عامًا)  صحافية شابة، كاتبة وفيلسوفة، ونابهة، تخضع لعقوبات غربية، بسبب المسألة الأوكرانية، كانت عائدة من احتفال شعبي أقيم في ضاحية من ضواحي موسكو، وما إن أدارت مفتاح السيارة حتى انفجرت، وانفجر معها قلب دوجين، أحد كبار الفلاسفة والمنظرين السياسيين الروس، وأحد الذين وضعوا الإستراتيجية الروسية لعصر بوتين.

مجلة فورين بوليسي الأمريكية وضعت دوجين ضمن 100 مفكر اجتماعي وسياسي مؤثر على مستوى العالم،  كان هذا التقدير البالغ قبل وقوع المسألة الأوكرانية، لكنه فيما بعد  صار لديهم «قوميا وفاشيا» يخضع لنظام العقوبات الغربية على المقربين من بوتين، ويتهمه الغرب بتشجيع بوتين على غزو أوكرانيا، وسبحان مغير الأحوال الغربية!

الشاهد أن دوجين أحد فلاسفة الجغرافيا السياسية، لا يقل تنظيرًا وتفكيرًا عن هالفورد ماكندر العالم الجغرافي البريطاني، ولا عن جمال حمدان العبقري المصري الفذ،  ويقف على قدم المساواة مع اثنين من الأمريكيين الإستراتيجيين هما : زبيجنيو بريجينسكى وهنري كيسنجر، بل يتفوق عليهما في المسألة الأكاديمية، خصوصا في دمج السياسة بالجغرافيا دمجا حتميا، ويناهض أمثال الأمريكى صمويل هانتنجتون، ونظريته صدام  الحضارات، كما ينظر إلى الثقافة الروسية السلافية نظرة عاشق، ولا يشعر معها بدونية مع الثقافات الأخرى، خصوصًا إذا كان يتقن نحو عشر لغات عالمية، ويحاضر بها في أكثر من جامعة عالمية، وتنفذ آراؤه في القلب الروسى الصلب.

يؤمن بأن العالم في أصله العميق متعدد الأقطاب والثقافات، ينتقد النظرية القائلة بأن الدول البحرية والأطلسية هى صاحبة الحضارات والأجدر بالقيادة العالمية كحتمية، ويراها نظرية مزيفة، وغير صحيحة، بل يؤمن بأن الدول البرية والقارية صالحة وقادرة على قيادة العالم أيضًا، وأن روسيا التي لا هي أوروبية ولا آسيوية، بل مزيج فريد من الاثنتين هي المؤهلة لفكرة السلام العالمي، على أن تستعيد المناطق القديمة التي كانت تشكل الإمبراطورية القديمة، وعلى أن تتمدد بخطوطها إلى الجوار غير الروسي، مع احترام الأعراق والأديان والثقافات المختلفة، وفي هذا كان مشجعًا لدخول روسيا على خط الأزمة السورية، منعًا لامتداد نظرية الفوضى الخلاقة إلى القلب الروسي، متهما الدول الأطلسية بصناعة ثورات ملونة في أوكرانيا وجورجيا ودول الاتحاد السوفيتي السابق المستقلة لمحاصرة روسيا.

دوجين كتب أكثر من ثلاثين كتابًا، أبرزها كتاب”أسس الجغرافيا الروسية - المستقبل الجيوسياسي لروسيا” ، أصدره عام 1997، أى بعد انهيار الاتحاد السوفيتى بست سنوات، يدعو فيه إلى روسيا من الأورال شرقًا إلى الأطلسي غربا، تضم في طياتها كل مناطق الإمبراطورية السابقة، ثقافيًا وعرقيًا ولغويًا، ثم آمن بالفكرة الروسية القديمة الداعية إلى الأوراسية الدولية، ويؤمن ويدعو إليها كثير من السياسيين منذ العشرينيات من القرن الماضي.

من الدعوة إلى الأوراسية الدولية، قفز دوجين إلى طرح نظرية جديدة هى النظرية السياسية الرابعة، وهى نظرية تعارض من وجهة نظره النظريات السياسية الدولية الثلاث: الليبرالية والاشتراكية والفاشية، وتقوم نظريته الرابعة تلك على الشراكة دون التفرد لعرق أو طبقة أو دين، أى عالم متعدد الأقطاب وأكثر عدالة، مناهض لما يسمى النظام القطبي الأحادي.

أليس غريبًا أن يطال الاغتيال كل من يفكر خارج المركزية الغربية، وهل يمكن أن تذكرنا محاولة اغتيال دوجين الفاشلة تلك باغتيال جمال حمدان؟

كان يمكن أن يرد القتلة على دوجين بكتاب أو نظرية، لكنهم آثروا الطريق السهل: الاغتيال.. وهو طريق لا آخر له، ولا توجد في نهايته أضواء.

كلمات البحث