(1)
إذا كان العنوان يفكر للنص كما نقول في الأدبيات الإعلامية والنقدية، فإن عنوان هذه الأطروحة المكثفة حمَّال أوجه، إذ يشي بدلالات متعارضة، كثنائية جدلية داخل الشيء الواحد في الوجود، والجدلية في العنوان تتململ ما بين الاستفهام، والاستنكار، والإقرار.
هل صاحب هذا الطرح لا يريد أن يكتب، استفهامًا أم استنكارًا؟ مع أنه كاتب، والكاتب يؤدي دورًا لم يكلف به أحد طبقًا للبروفيسور «إدوارد سعيد» إنه الإيمان بدور الكلمة ودور كاتبها، ولو يعرف الذين يكتبون أين تقع كلماتهم من نفوس الناس، لارتجفت الأقلام في أيديهم، وترددوا كثيرًا قبل أن يقولوا شيئًا، ولكن هذا لا يحدث إلا قليلًا، عندما تواجهنا الحقيقة فجأة، فنعرف أن «كلماتنا كانت أحجارًا سقطت على ماء ساكن فهزته ثم سكن كل شيء، أو كانت بذورًا استقرت في أرض واسعة مسطحة كأنها أكف متعطشة تنتظر، أو كانت سمومًا جاءت بعدها النهاية» على حد توصيف «أنيس منصور».
والعلاقة بين القارئ والكاتب علاقة معقدة، كطرفي المقص، لا غنى لأحدهما عن الآخر، وكان يوسف إدريس يتساءل: «هل يستطيع الناس أن يتحملوا الحقائق كما يراها؟» لاسيما أن الكتابة ليست عملًا من أعمال السحر والتنجيم، ولكنها الكتابة المغموسة في لحم ودم المجتمع وتضع اليد على العرق الذي ينبض، فترى الواقع في شموله واتساعه على حقيقته.
(2)
إذن. ما هي الإشكالية التي تستبد بأصحاب هذا النزف: قلمًا.. وألمًا.. وأملًا..؟ على الرغم من أن غواية الكتابة ونشوتها بسحرها وسرها، كامنة في أعماقه البعيدة: نفسًا وحدسًا وحسًا؟ هل يريد أن يدخل سلاحه في جرابه، اعتراضًا على إصلاح، أجهد ذاته في الدعوة للأخذ به؟ أم احتجاجًا على ظاهرة عالمية تلقي بظلالها البغيضة على مجتمعاتنا بصورة أو بأخرى ولا يتوانى عن التحذير من تداعياتها المدمرة؟ أم رفضًا لأن يكون من زمرة (هؤلاء) المثقفين الذين ينتظرون حتى يتم الحدث، ثم يصفقون مع المصفقين، أو يرفضون مع الرافضين؟
أهو العجز عن متابعة الأحوال، لكن التحولات حولنا تجعل الفكر يشتعل وهجًا وحُزْنًا بل حَـزنًا، (والحَـزن استمرارية الحُزن)، أهو فقر فكر، والفقر طبقات، أخطرها الفقر الفكري..؟
أهو كسل قلمي، فالمداد فياض، ويمكنه أن يغمر مساحات شاسعة ومسافات ضوئية، في ضوء المثل الرائع والمروع «يموت الزمار وصوابعه بتلعب»!
أم هو استغراق في العذابات، ذلكم أن ثنائية العذاب والعذوبة تتعادل، أو يفترض ذلك، لكن الاختلال في الميزان مرعب لصالح الطرف الأول بكل جبروته وتوحشه؟
(3)
وأنا أنتزع هذا العنوان من غابة ثقافة الأسئلة، تشكلت أمامي هذه الواقعة المثيرة لألف علامة تعجب وإعجاب: إذ ظل الرجل في قلب الميدان العام - بإحدى المدن العريقة في العصور الخوالي - يوزع «منشورات» ويتلقفها الناس، لكنهم في حالة ذهول، فالمنشور مجرد صفحة بيضاء، لا كتابة فيها ولا أية نقطة حبر، ويلقي بها في كل الاتجاهات، فجاءه رجال الشرطة واقتادوه إلى القسم، رفض الحديث وطلب بأن يذهب إلى أكبر مسئول أمني، فأجابوه إلى طلبه، وأمام الوزير- والوزير في الأثر التاريخي دائمًا كما سأله الملك: دبرني يا وزير، يجيبه: التدابير لله يا ملك» (!!)
ونظرًا لقناعة الرجل أن الوزير لا يفعل شيئًا، رفض أيضًا الكلام، طالبًا المثول أمام الحاكم، فلن يتكلم إلا إليه، وبعد أخذ ورد، ودهشة واستنكار وتعجب، ذهبوا به إلى الحاكم، ولما سأله عن حكايته ولماذا يوزع منشورات خالية من أي كتابة، قال الرجل:
- يااااه..ح اقول إيه..؟ واللَّا إيه..؟ واللَّا إيه..؟؟
(4)
عندما تصبح الكتابة وظيفة ومهنة، فإنها تفقد الكثير من رسالتها. وحين تتحول الكتابة إلى عادة، تزهق فيها روح العبادة، ويوم تصير الكتابة عملية ديكورية وتكميلية، تختنق فيها شعلة التنوير والتثوير.
الكتابة الحقيقية هي التي تهز المجتمع القارئ، وتجعله يقول للكاتب: أرحني.. أسعدني.. هزني.. أنمني.. أيقظني.. اجعلني أحلم.. أضحكني.. أبكني.. جفف دموعي وعرقي.. افعل شيئًا.. إنك قادر على كل شيء «طبقًا لعبارة الكاتب الفرنسي موباسان»!
لكن عن أي كتابة نتحدث، وأي كاتب نريد؟!
إن الكتاب والمفكرين والمبدعين والفلاسفة والمثقفين عمومًا يقومون بدور لم يكلفهم به أحد، إنهم أصحاب رسالة..
وكنشوة الكتابة، تتجلى نشوة القراءة، إذ القراءة كتابة أخرى وإبداع أيضًا، وإذا كان يقال قديمًا «ليس من المهم أن يكون على رأسي تاج ما دام بيدي قلم» فإن اليوم نقول للقارئ أو المتلقي «النقاش يصنع الرجل المستعد، والكتابة تصنع الرجل الدقيق» وفقا لتوماس أديسون، بل هي عمل حب، وأيضًا عمل تحدٍ، وهي طريقة لإضاءة شمعة في ريح عاصفة.
،،،،،
وإلى الملتقى مع شجون هذه السردية.. إن كان في العمر بقية...