هل نسير نحن وكوكبنا العجوز باتجاه المهمة الجليلة، تلك الأمانة التي كلف الله الإنسان بها وهي أن يعمر الأرض وينشر الأمان والسلام والعلم والخير والنماء؟ وهل نحن بحاجة لإحداث تغيير إيجابي في مرجعياتنا الفكرية باتجاه إحداث تطوير فعال في مجريات حياتنا ومنطقيات وآليات تقدمنا نحن وكل البشرية نحو الهدف العظيم "إعمار الأرض"؟
في الحقيقة، واستلهامًا لما قد ذكرته سابقًا في مضمار آخر، فستظهر جليًا على السطح حقيقة علمية راسخة ألا وهي أن الظروف المختلفة تتطلب دائمًا أساليب مختلفة، ولكن ليس اختلافًا في الأخلاقيات فالأمم المحترمة تحترم القانون، وتعتقد بأنه لا يجب أن يكون أي أحد فوق القانون، وعندما تتعرض أي أمة لأي خطر يحدق بها وبشعبها وأرضها وبقائها فإنها تعمد إلى استخدام كل ما لديها من أفكار وخبرات وقدرات كي تدرأ هذا الخطر، وتحمي أراضيها وأرواح مواطنيها وتصون كرامتها وتحفظ تاريخها، ولا يوجد على الأرض من كائن أيًا كان إلا وأمنه وطعامه وشرابه وكسوته وصحته وسكنه هو أهم مطالبه؛ كي يستمر في الحياة، وتكون له القدرة الاختيارية على العطاء والمساهمة في الإنتاج والبناء لكل ما يلزم لتطوير حياته وتنمية موارده وزيادة ثروته الفكرية والمادية كجزء لا يتجزأ من نماء البشرية ككل.
بما أنني أنتمي لإقليم هو بحق نجم مستمر في السلسلة الدرامية العالمية بكونه محورًا مشتركًا في معظم حركيات ومستجدات الأمور السياسية والاقتصادية والأمنية والشعوبية، وهو بالطبع إقليم الشرق الأوسط العظيم، لذا فانني أعتقد أيها السادة أننا في هذا الإقليم نحتاج وبشدة إلى نقلة نوعية وانتفاضة نفسية وصرخة ثقافية مدوية وقفزة علمية وتعليمية غير عادية، وهذه الأربعة لا يمكن أن تحدث إلا بأن نعقد النية أولا، ونستلهم القدر الكافي من العزيمة، ونطلق مارد الإرادة ونتخذ قرار التغيير، نعم التغيير في كل شيء، في أنفسنا فردًا فردًا أولا، وفي أسلوب تفكيرنا، وفي الطريقة التي يمكن أن نحقق بها نقلة نوعية جديدة على مجريات حياتنا، فأفكارنا وأخلاقنا وعلومنا وجهودنا هي التي يمكن أن نرسم بها صورة جديدة لأيامنا الحالية ولسنوات عمرنا المقبلة لأننا، وهذا لاشك فيه، سنواجه متغيرات عديدة تأتي لنا بها الأيام والليالي؛ سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو العالمي، فالأرض لا تتوقف عن الدوران، والعالم لا يتوقف عن التقدم، والحياة لا تتوقف عن التغيير، وليس من الحكمة أن نظل متفرجين مرتخين كسالى وقابعين في آبار العوز والحوجة وآثار الجهل، وجواذب الفقر ومستلهمات المرض، كما أننا لن نظل طوال عمرنا في مواجهات مع فئات ضالة وفاسدة ومتخلفة وعنيفة من معيقي التقدم البشري أينما تواجدوا؛ لأن هذا هو ما يسبب نزفًا مستمرًا لمقومات حياتنا واستنزافًا لمواردنا.
في الحقيقة ووسط خضم الأحداث الدولية والحوادث العالمية وغارات المغيرين ومكر الماكرين وتعديات المعتدين، أجدني دائمًا أمام سؤال متكرر الطرح وهو: لماذا أصبحنا غير قادرين على رؤية الحقائق وما وراء الاحداث؟ وهل بدأ نور بصيرتنا في الانخفاض كنتيجة لانخفاض مستوى قيمنا وأخلاقنا، فتدنت قدرتنا على التمييز بين الإنجاز وبين العنف والابتزاز، لا أحد ينكر أن هذه المرحلة ليست بالهينة وليست نمطية وليست متكررة، فكفانا سخرية وعدم اكتراث بما يتم إنجازه بوضوح على الأرض، في ظل هجمات كونية وجيوسياسية ذات أبعاد وتوابع عنيفة على كل أرجاء المعمورة، وكأننا مصابون بمرض غريب يخفي علينا ما يتحقق ويمسح من أذهاننا ما تنقله إلينا الوسائل المختلفة من خطوات جادة تراها أبصار العالم ولا تراها عيوننا على أراضينا، ولا أدري لماذا يصر الكثير من الناس على أن يشيح بوجهه وبصره عن أحداث وإجراءات ونتائج حقيقية إيجابية تحدث على أرض الواقع، ويصرون على تجنبها وتناسيها ويكملون إصرارهم على ضرب أي فرصة وأمل وضوء ينير لنا الطريق؟ وماذا سيستفيد كل من يحبطنا ويقلل من شأن كل ما يتحقق يوميًا، بينما تشهد لنا شعوب بأكملها والأكثر من ذلك أن هناك شعوبًا أخرى باتت مقيمة بالفعل على أراضينا مما يزيد من ثقل أعبائنا، ويبطئ من سرعتنا، ومع هذا فكل مؤشرات النمو الاقتصادي الرسمية التي ترصدها عيون كل الجهات المتخصصة وبصيرة بيوت الخبرة العالمية تقر بحقيقة ما ينجز، وتشيد بما يحدث من تغيير إيجابي على الأرض، ولماذا نصر نحن على نفي ذلك، ونمنع عيوننا من إبصار الحقيقة؟ وماذا سنجني لأنفسنا ولمن حولنا من جراء كثافة رفضنا وانشغالنا بتكرار نقدنا واعتراضنا الذي يشغلنا كثيرًا عن المشاركة الحقيقية في تغيير حياتنا إلى الأفضل، حتى ولو بعدم الرغي والكلام المحبط والتقليل من العزيمة على التغيير والتطوير؟
الواقع على الأرض يقول بكل وضوح إن إقليمنا وأمتنا يخوضان حربًا ضد شواذ الفكر والاعتقاد والسلوك من محترفي التطرف ذوي الانتشار العالمي ممن يريدون الدمار لأي عمار، وهذا العدو ليس نظامًا سياسيًا واحدًا أو شخصًا أو دينًا أو أيديولوجية حقيقية، العدو هو ذلك المرض النفسي والتطرف الفكري والغزو الثقافي عبر التكنولوجيا الرقمية المفتوحة والمكر السياسي والتآمر الاقتصادي والأمني والإعلامي والتكنولوجي الذي يدمر أي هوية تاريخية ويحرق العمار ويشيع الدمار ويقضي على الحضارة مع سبق الإصرار والترصد ويستخدم العنف بدوافع مدعومة سياسيًا من أطراف متعددي الأوجه والأقنعة والمرجعيات ضد الأبرياء في العديد من المناطق، وهذا الأمر لا يمكن معه أن تستمر الحياة بصورة مستقرة ولا يمكن للنمو الاقتصادي والتنمية المجتمعية أن تحدث ولا يمكن لأي فكر أو علم أن ينمو ويزدهر لذلك كان ولا يزال من الضروري؛ بل والمحتم أن يعمل الجميع داخليًا وخارجيًا على أن لا تتوقف كافة أنواع ومستويات وصور الجهود اللازمة لإحداث زيادة مطردة في معدلات النمو الاقتصادي باتجاه أن ينعم المجتمع بمستويات مرتفعة من التنمية الاقتصادية وهذه الأخيرة من الصعب أن تتحقق في ظل أى قصور في الفكر والعلم والثقافة والموارد أو أي تقصير في الجهد والالتزام بالمشاركة في الإنتاج والبناء والأداء الجماعي المتناغم بعيدًا عن الخلاف والاختلاف حتى تتم المهمة الجليلة وهي حدوث الاستقرار والنماء العام المتميز بعوائد عامة وجماعية وفردية على كل من يسكن الأرض.
أعتقد أننا من المهم أن ندرك جميعًا أن مفهوم المجتمع الآمن المتحضر الغني يتركز حول دعم التحول إلى أمة متقدمة تعتمد على دولة قانون وشعب مؤهل، ومرجعية علمية متطورة، وثقافة وطنية نقية، ومناخ وطني طاهر ومستقر ومتوازن ومتآلف وأداء شخصي ومؤسسي عالمي، وأن الدفاع عن إقليمنا وأمتنا ضد أعدائها هو الالتزام الأول والأساسي على كل إنسان سوي حر، ولأن أعداء اليوم لديهم العديد من القدرات الكبيرة والمتنوعة والمدعمة تكنولوجيًا وماليًا ومعلوماتيًا، لذا فقد أصبح واجبًا على كل من يسكن الأرض من مواطني هذه الأمة العظيمة بتاريخها أن يكون له دور خاص ودور عام، فأما دوره الخاص فهو الحفاظ على استقامة واستقرار وارتقاء شأنه الإنساني الفردي والأسري، ومحيطه من الأصدقاء والزملاء والجيران والمعارف، وأما دوره العام فهو الالتزام بالمشاركة في العطاء والبناء والحفاظ على الاستقرار العام تحت مظلة قانون يجب أن يحترمه الجميع.
[email protected]