رغم إتمامه العقد الخامس، إلا أنه كان طفلًا حيال هذه الأزمة، وكان يدرك تماما حجم الخسارة الفادحة برحيل أمه المفاجيء إذ لم تمهله - وفقا لقوله - مجرد ساعات ليركب أول طائرة ويعود من سفرته ويراها فيقبل وجهها في وداع يليق بحبه لها.
موضوعات مقترحة
كل ما تم كان في نطاق الوقت الضائع، حين علم (خالد) من زوجته (ندى) بأن أمه قد خرجت من العناية المركزة إلى البيت ولكنها لازالت في حالة غير مطمئنة، واضطر لقطع عمله وحجز تذكرة وركوب أول طائرة تتجه صوب القاهرة.
- أنا حاسس يا ندى إننا اتسرعنا في خروج ماما من المستشفى
= يا حبيبي ما تقلقش خالص.. الدكتور بنفسه قال لازم تخرج م الرعاية ومش محتاجة تاخد أوضة في المستشفى.. بس شوية اهتمام في البيت والتزام بمواعيد الدوا.. علشان كده أخدتها عندي في البيت
- ندى .. أنا مش هاطمن عليها غير معاكي.. إوعي (شيرين) ولا جوزها ولا حد منهم ييجي البيت يشوفها حتى
= ده كلام يتقال يا خالد إزاي يعني؟!! حرام عليك دي بنتها.. ما ينفعش تحرمها من إنها تشوفها في وقت زي ده.. ربنا ما يرضاش بكده
- مستحيل.. أنا خلاص ما بقتش أثق في البنت دي.. هي أختي صحيح بس مش طبيعية… نسيتي إن ماما جالها ذبحة بسببها هي وجوزها لما راحوا لها وزعقوا لها، ولا لما طردتها من بيتها في نص الليل وسابتها تروح لوحدها في تاكسي.. والله ما هاخليها تشوفها
= طب اذكر الله واهدى بس وتعالى وساعتها نشوف
مضى الوقت مربكاً وحزيناً على خالد في الطائرة، حتى أن حظه العثر أجلسه بجانب رجل ثرثار ظل يوعظه، ويحكي عن قصص من الأثر لم يُعر (خالد) لها أى اهتمام وصار يستمع مجاملة فقط، حتى القصة الوحيدة التي جذبت انتباهه بعض الشيء عن قصة قتيل بني إسرائيل الذى عاد من الموت للحياة وأخبر عن قاتليه، شرد عن التركيز في بقية تفاصيلها من فرط غيظه من الرجل الثرثار.
وصل (خالد) المطار وبمجرد أن فتح خط هاتفه المحمول بادرته (ندى) زوجته بالاتصال وهي تبكي وتطلب منه التعجل لأن والدته لا زالت حية وتتمتم باسمه بين غفوة وأخرى في سكراتها.
كالبرق طار (خالد) إلى البيت.. ولكن متأخراً ليجد ذلك المشهد الكئيب المتوقع:
زوجته وأخته تبكيان وزوج أخته واقفاً مدعياً الحزن بملامح مفتعلة، فعلم أن كل شيء قد انتهى وأسدل الستار على حياة أمه، في نصف ساعة فقط زمن الطريق بين المطار والبيت
وبعد الصدمة والانهيار والبكاء الهستيري، ومعانقة زوجته له، بدأ يدرك أن ثمة أمور مستفزة في المشهد من حوله، فأصابته حالة هياج وبدأ وصلة السباب والهجوم على أخته وزوجها وكأنه يعتبرهما هم قتلة أمه، وبصعوبة تم فض الاشتباك من خلال زوجته والجيران.
مضى اليوم الكئيب، ووقف (خالد) ليتلقى التعازي في وفاة والدته، ووقفت زوجته في ناصية السيدات، في حالة عدم اتزان لفقد هذه السيدة، إذ كانت بمثابة أمها وأعطتها فعلياً نصيب وحظ (شيرين) ابنتها من القرب والحظوة.
مر الوقت وانصرف الناس وفوجئت (ندى) بطلب غريب من (خالد):
- معلش يا حبيبتي أنا رايح بيت ماما.. هبات هناك
= نعم !!.. انت بتقول إيه يا خالد؟!!
- معلش عارف إنه طلب غريب.. بس وحياتي عندك سيبيني.. أنا عايز اشم ريحتها.. محتاج أنام في سريرها.. أرجوكي سيبيني انهارده
= خلاص يا حبيبي على راحتك.. بس ده غلط.. مش صح.. احنا مؤمنين بالله وبقضائه.. بس روح خلاص لو ده اللي هيريحك.. ما تنساش تاخد دواك.. واللا أنا هابقى اتصل افكرك
توجه (خالد) لشقة أمه القديمة في مصر الجديدة، تطوف به ذكريات الطفولة مع الشباب في شريط سينمائي ووملامح وجه أمه لا يغيب عن باله، وفور دخوله البيت انخرط في بكاء هيستيري، جاثيا على ركبتيه في غرفتها وعلى سريرها، وراح يصرخ بأعلى صوته:
- أمي.. .سيبتيني ليييييه.. . رحتي فين؟!!
ما هذا؟!….
ثمة صوت خاطف صدر قطع السكون…ولم يستطع (خالد) تفسيره
في ثانية واحدة توقفت الدماء في العروق، واضطربت كل هرموناته الذهنية، واتهم نفسه بالهذيان، مما دفعه يعيد نفس النداء ولكن بصوت أخفض فقال هامساً:
- ماما؟!
فجائه الرد جليا واضحاً تقشعر له جلود الذين حضروا
= نعم يا حبيبي
طقطق شعر (خالد) من فرط ذعره حين التفت ليجدها نائمة بجانبه في وضع الموتى ولكن صوت حديثها يصدر منها
تيقن لبرهة أنه بات أسيرا للفصام وضلالات لوعة فقد المحبين كما كان يسمع في الأفلام، ولكن سرعان ما سكن حين استرسل صوت أمه المنبعث من جثتها، وصار يستمع في صمت وذعر ..
كانت الحكاية مؤلمة.. مزرية.. مشينة.. تماماً كلك التي رواها قتيل بني إسرائيل إذ أحياه الله ليخبر عن تفاصيل جريمة ذبحه على يد عمه
كذلك تكلمت الأم وأخبرت عن تفاصيل تلك الساعات الأخيرة حين تم الاتفاق بين (شيرين) وزوجها مع (ندى) التي استغلت بعض التحسن الطفيف في حالة حماتها ونجحت في إقناع الطبيب بأن تخرج وتستكمل رعايتها في البيت وقبل وصول طائرة (خالد) بساعة سهلت (ندى) دخول (شيرين) على أمها للبيت ولغرفة نومها مستغلة حالة الوهن التي اعترتها وكونها لا تقوى على المقاومة أو الصراخ، ولم تُبال بابتسامة الأم لها وسؤالها عن (خالد)، فأجابتها (شيرين) بنظرة سادية قاسية ووضعت الوسادة على وجهها الهزيل مستعينة بـ (ندى) التي أمسكت قدميها بإحكام لتنقطع آخر أنفاسها في الدنيا.
كان الشيطان الراعي الرسمي للاتفاق الثلاثي بين الابنة وزوجها و(ندى)، خلال سفر (خالد) للعمل ليتسنى للجميع ميراثاً شرعياً كبيراً لثروة تقدر بملايين كانت العجوز تأبى أن يقترب منها أحد وهي حية.
فلاش باك
- أنا زعلانة منك يا ماما؟
= ليه يا زفتة.. أنا مش ناقصة فيا اللي مكفيني
- ما اسميش زفتة اسمي شرين
= ليه يا شيرين؟
- علشان كل مرة بتسيبي بابا يضربني ومش بتحوشي عني.. لكن لو شتم (خالد) بس بتزعلي منه
= لسه فيكي الداء المهبب ده وبتقارني نفسك باخوكي.. قلت لك ١٠٠ مرة احنا مش بنفرق.. والصراحة (خالد) بيسمع كلامي وبيريح قلبي مش زيك تاعبني.. كفاية وجع القلب اللي جاي لي من ابوكي بسببك.. علشان لبسك وخروجك
- بابا عايز يحبسني.. حتى المدرسة بيوديني بالعافية.. وسايبين خالد يخرج براحته مع صحابه
= بت !!!.. مش عايزة صداع.. غوري من وشي علشان مصدعة.. وروحي يالا حضري الفطار لأخوكي علشان رايح الكلية.
حكايات قبل الموت
حكايات أخري من السلسلة:
ثلاث دقات
لعنة ليلة الدخلة!