مباشر/ أورشليم!

21-8-2022 | 16:19

هي قصة قصيرة جرت أحداثها ذات مرة قبل حوالي عشر سنوات، داخل غرفة تحكم إحدى القنوات المصرية، حين قرر أحد المحررين المبتدئين أن يكتب على البث الحي القادم من فلسطين والخاص بقُداس عيد القيامة: "مباشر/ أورشليم"! واقعة رُبما تكون مفيدة إن تشاركتها الآن مع مَن يروق لهم الالتحاق بكليات الإعلام في الموسم السنوي لأيام مكتب التنسيق.
 
حين قام المحرر الجديد بترجمة "جيروزاليم" إلى "أورشليم" فعلها ظنًا أن هذا هو الصحيح. إن كلمة "جيروزاليم" المُرسلة من الوكالة الإخبارية الأجنبية ترجمتها العربية: "القدس/ بيت المقدس/ أورشليم"، وكلها تراجم منضبطة، لكن انتقاءك الأصح للمفردة في زمان ومكان بعينه، لا يتأسس إلا بناءً على وعي مدرك لطبيعة المشهد وما سيتسبب فيه اختيارك المهني من ردة فعل. إن كلمة "أورشليم" ليست خاطئة أبدًا لكن طاقتها تستدعي آليًا لخيال المُشاهد العادي فيلم "الناصر صلاح الدين" والحملات الصليبية، وتستجلب لذهنية المُشاهد المطلع صحيفة "جيروزاليم بوست" التابعة للكيان الصهيوني، وتحقن في وجدان المُشاهد المتربص كل أفكار التآمر على القضية الفلسطينية والدول العربية وسائر بلاد المسلمين! سيَّما إن كان مالك القناة حقبتئذ متهمًا في بعض توجهاته من بعض خصومه وحساده.
 
المحرر كان خريج إحدى كليات الإعلام، وهي برأيي، أيسر كليات مجرة درب التبانة إن قورنت بالكليات الأخرى، الالتحاق بها يمنحك في نهاية المطاف "بكالوريوس الإعلام"، مؤهل براق يعني أنك اجتزت أربعة أعوام اطلعت فيها على عدد من الكتب غير الصعبة والتي تتحدث عن قواعد الصناعة، بالإضافة إلى إنجازك مشروع تخرج، حتى وإن كان سيئًا فلن يعاقبك بسببه أحد باعتبار أنك في البدايات، لكن هذا كله لن يصنع منك فردًا مؤهلًا للالتحاق بهذه الصناعة في ظل خطر الانقراض الذي يتهدد ما تبقى من فرص للعمل، فالسبيل في البدء هو (الاطلاع بكثافة). بدون القراءة ستفتقد الوعي، لن تتميز عن أقرانك، لن تصبح إلا خريجًا عاديًا، وإن حدث والتحقت بمؤسسة إعلامية عبر وساطة، وأنت على هذا النحو فلسوف تصنع من الكوارث ما قد يعيدك "في أحسن الأحوال" إلى بيتك بلا رجعة. إن القراءة الصانعة للثقافة، المكونة للوعي، هي المفتاح الأول في هذا الحقل، وهي ما كانت ستحول بين المحرر وكتابة  "مباشر/ أورشليم".
 
رُبما تقول في نفسك الآن إن رغبتك هي أن تكون مُخرجًا، وهذا لا يستلزم منك القراءة بالسياسة والتاريخ والأدب والفلسفة والأديان! أنا أطمئنك أن هذه الفكرة هي بدايتك المحققة نحو جهل عصامي! إن إلمامك بتقنيات العمل الإعلامي ليس صعبًا، لكن المحك الرئيس هو مدى إتقانك تقديم رسالتك التي ستغزو بها عقل ووجدان المتلقي. إن وضعك للكاميرا في نقطة بعينها وتحديدك لزاوية التقاط الصورة يكمن وراءها كل مخزون اطلاعك ووعيك وإدراكك لمقاصد الجهة المنتجة التي تعمل من خلالها. إن كنت تستهدف سحر السينما فإن الموهبة المصقلة بحيازة الفكرة الناجمة عن القراءة والتعبير عنها عبر الآلة، هي ما خلدتْ أسماء مثل يوسف شاهين وعاطف الطيب ومحمد خان وداوُد عبد السيد، وإن كان مقصدك العمل المُتلفز فإن القنوات الكبرى لا يتميز داخل أروقتها إلا الحرفيون القادرون على تنفيذ مقاصد الجهة المنتجة وعدم توريطها، وهذه مهارات لا علاقة لها فقط بالموهبة والإجادة التقنية، بقدر ما هي مرتبطة بشكل كبير بمدى تنوع مصادر ثقافتك واطلاعك وإلمامك بأحوال الدولة والإقليم وتشابك ذلك كله مع مختلف قوى العالم. إن مُخرج الاستوديو يومها بحسه المُسيس هو مَن حال دون بقاء "مباشر/ أورشليم" على الشاشة ولم تظهر إلا لثوانٍ معدودة.
 
في النهاية من المهم جدًا، لكل الفائقين بالثانوية العامة، ممَن يرغبون في الانضمام لكليات الإعلام، إدراك أن المجموع وحده بلا موهبة ليس برهانًا مطمئنًا على الإطلاق للالتحاق بالكلية، فإن توافرت بك الموهبة ولم تكن من الشغوفين بالقراءة فإن الموهبة بالأغلب ستذهب إلى الجحيم، إن مَن لا يَعلم لا يمكن له أن يُعلم.
 
للتواصل مع الكاتب عبر تويتر:

twitter.com/sheriefsaid

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: