هناك مثل تشيكوسلوفاكي يقول: «رغيف خبز في زمن السلم، أفضل من قالب حلوى في زمن الحرب». وهو ما كشفته أزمة رغيف الخبز في لبنان؛ حيث مأساة هذا الشعب الذي يواجه كل يوم معاناة وحربا من أجل البقاء، معاناة بدأت منذ ثلاث سنوات تقريبا مع انهيار الليرة اللبنانية، ولم يكن اللبنانيون وهم من عرفوا بأكثر الشعوب العربية قدرة على صناعة البهجة، أن تتحول حياتهم إلى جحيم ما بين حكومة غير قادرة على إنقاذ الوضع الاقتصادي المتأزم، وسماسرة يهربون الدقيق إلى دول مجاورة برغم تلك الأزمة الطاحنة.
موضوعات مقترحة
تفاقمت أزمة رغيف الخبز منذ أيام لتصبح هي الأكثر بشاعة بين أزمات متتالية مع انقطاع التيار الكهربائي، والغاز، والسكر، وخلو الأسواق من الأطعمة الشعبية التي كانت تسد رمق جوع من أصابهم الفقر بسبب الظروف الصعبة التي آل إليها الوضع في القرى اللبنانية.
منذ أن بدأت الأزمة واللبنانيون يعانون في طوابير طويلة والوقوف ساعات من أجل حزمة خبز وصل سعرها إلى سبعة آلاف ليرة في بعض الأحياء، في حين رصدت تجاوزات كثيرة لسماسرة قيل: إنهم يهربون بتهريب الخبز إلى مناطق نائية، بل إلى سوريا.
وتناقل اللبنانيون تلك الصور المعبرة عن المتاجرة برغيف الخبز على وسائل التواصل الاجتماعي، في حين سخر البعض من الوضع فكتبوا «مجددا، أزمة الخبز تعود إلى الواجهة في لبنان... تمهيدا لرفع سعر الربطة إلى ٧٠٠٠ ليرة،، كل شيء بلبنان عم يغلا إلا الإنسان كل يوم يرخص أكتر وأكتر ».
لا يدرك كثيرون ممن يعيشون منعمين في أوطانهم كم أن مثل هذه الأزمات تؤثر على حياة الأطفال قبل الكبار، إذ تسعى الحكومات دائما ومنها على سبيل المثال مصر إلى توفير رغيف الخبز ليكون هو الأساس، حيث سعت الحكومة المصرية منذ أن بدأت الحرب الروسية – الأوكرانية إلى توفير القمح، ولم تتوقف مجهوداتها حتى اطمأنت على وجود رصيد كاف، وتعاقدات فورية مع روسيا فور انفراجة دولية لتوفير القمح إلى بقية الدول وكانت مصر سباقة في هذا الصدد.
ما يحدث في لبنان يكشف كمْ كانت الحكومة المصرية سباقة في تأمين وضع رغيف الخبز، وهو ما حدث ولمس الجميع المجهودات التي بذلت من أجل لتوفير القمح، من زراعات محلية أو استيراد من دول عدة، ولم يشعر المواطن بوجود أزمة، بل أصبحت بطاقة التموين في وقت قصير وسيلة لسد حاجة بعض الأسر الفقيرة؛ من حيث الزيادة الفورية في رصيد الأسرة الواحدة لدعم السلع بمئة جنيه.
رغيف الخبز يمثل الحاجة الأولى للمواطن وقال فيه الشاعر الكبير محمود درويش: «أحبك حب القوافل واحة عشب وماء وحب الفقير الرغيف! كما ينبت العشب بين مفاصل صخرة وجدنا غريبين يوما ونبقى رفيقين دوما»... وقالت الروائية غادة السمان أيضا: «الفرق بين الجوع والشبع… رغيف واحد» وقال محمد عفيفي: «الحب الأفلاطوني أشبه شيء برغيف عيش تأكله (حاف) على رائحة الكباب المنبعثة من دكان الحاتي.»
قيل الكثير في أهمية رغيف الخبز للشعوب، وقد مر لبنان بأزمات كثيرة لم يكن رغيف الخبز من بينها منذ أن بدأت الأزمة الاقتصادية، وهي المرة الثانية التي تتفاقم فيها أزمة «العيش».
بدأت أزمة الخبز بسبب النقص الكبير بالقمح مما أدى إلى أن أغلقت بعض الأفران أبوابها في مناطق عدة سواء في بيروت العاصمة أم في مدن وقرى كثيرة.
ووضِعت شروط للبيع والتوزيع بحدود معينة وبخاصة الخبز المدعوم، إذ ليس من حق أحد الحصول على أكثر من حزمة بها خمسة أرغفة في محاولة لتقنين كمية الخبز التي يمكن أن يحصل عليها كل شخص.
وكالعادة مع كل أزمة في متطلب من متطلبات الأسر الأساسية تنشأ السوق السوداء التي كثيرا ما واجهناها في مصر خلال أزمة سابقة، وتنتشر حاليا في لبنان حيث يباع فيه الخبز بأسعار مضاعفة، ولم تهدأ الأزمة للنقص الشديد في القمح، ومر أكثر من ثلاثة أسابيع دون أن تجد الحكومة اللبنانية حلولا جذرية لتلك الأزمة.
تحولت طوابير الخبز إلى ساحة للعنف، حتى شهدت إحدى تلك المناوشات إصابات بين الشباب، ونتج عنها وفاة أحدهم متأثرا بإصابة واختناق في طوابير الخبز، وآخر لفظ أنفاسه بعد أن لقي مصرعه أمام أحد الأفران نتيجة الاشتباكات.
أما عن الأسباب الحقيقية لتلك الأزمة فيؤكد أحد اللبنانيين أن هناك حالة جشع من تجار الدقيق الذين استغلوا نقص الدقيق المدعم ورفض بعض أصحاب المطاحن توريد حصص الدقيق اليومية للمخابز مما أدى إلى توقفها عن العمل.
وبرر أصحاب المطاحن رفضهم لتسليم الحصص بأنهم لم يتسلموا حصص القمح من الحكومة، ومن ثم لم تعمل المطاحن كعادتها بكامل طاقتها فحدث نقص شديد في الحصص.
وتعمل منظومة القمح في لبنان بنظام الدعم، وهي التي تحدد سعر حزمة الخبز والتي ارتفعت بسبب انخفاض الليرة خلال العامين الماضيين إلى سبعة آلاف ليرة وهي تزن 350 جراما طبقا لما تحدده وزارة الاقتصاد والتجارة، وهي حزمة تكفي لشخصين فقط، في حين تباع الحزمة الأكبر والتي تكفي أسرة مكونة من خمسة أشخاص بـ12 ألف ليرة، وأخرى بـ14 ألف ليرة.
وقال مصدر لبناني: إن توقف المطاحن كان سببا في تفاقم أزمة رغيف الخبز، فمن بين أكثر من عشرة مطاحن لم يعمل سوى ثلاثة أو أربعة بنصف طاقتها، وإن الحكومة لم تسع إلى حل الأزمة منذ بداية العام الحالي 2022، حيث بدأ الشعب اللبناني يشعر بوجود أزمة خبز في نهاية شهر يناير الماضي، وبدأ الوضع يسوء مع نشوب الحرب الروسية الأوكرانية.
ومع تفاقمها بدأت تحذيرات دولية من مغبة أن تؤثر تلك الأزمة على وضع اللاجئين؛ حيث يتهم بعض اللبنانيين اللاجئين بأنهم جزء أصيل من الأزمة.
وزير الاقتصاد اللبناني أمين سلام قال: إن لبنان يستورد نحو 50 إلى 60 بالمئة من القمح من أوكرانيا، فيما يعتمد في تلبية بقية احتياجاته من بعض الدول التي يجاورها، وقال في بداية الحرب: إن مخزون القمح في البلاد يكفي لشهر واحد فقط، ومر الشهر لتبدأ الأزمة في محاصرة الشعب اللبنانية؛ إذ يحتاج لبنان إلى ما يقرب من 50 ألف طن شهريا من القمح لتغطية حاجة السوق المحلية.
وكانت المفاجأة غير السارة للبنانيين في مطلع العام عندما أعلن وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال أمين سلام عن أنه بعد تسعة أشهر سوف يتم رفع الدعم عن الطحين، مشيرا إلى أن الاتفاق مع البنك الدولي هو لإنهاء الدعم عن الطحين، مشيرا إلى أن سعر ربطة الخبز قد يصل إلى 30 ألف ليرة، وأنه سيتم العمل من خلال بطاقات تحدد ما يجب أن تتقاضاه الأسرة من خبز.
ما زالت الأزمة مستمرة، وتسعى الحكومة اللبنانية جاهدة إلى حلها حتى لا تصبح أزمة الخبز قنبلة موقوتة، تضاف إلى الأزمات التي يعاني منها الشعب اللبناني الشقيق.