استكمالًا للمقال السابق والذي حرصت من خلاله مشاركة حضراتكم في تجربتي الشخصية، وانطباعاتي التي تشكلت نتيجة الزيارة الخاطفة إلى العاصمة الألمانية، ليأتي انطباعي الأول انعكاسًا لطبيعة فندق الإقامة، لتترسخ فكرة أن توفير التيسيرات يأتي في إطار الحاجة الفعلية والقدرة على تحمل تكلفتها دون مجال للتبذير أو الإنفاق المبالغ فيه، وهو الأمر الذي يساهم في بناء الأمم والحفاظ على تقدمها.
لأبدأ التحرك في محيط فندق الإقامة، وألاحظ انتشار العرب بدرجة كبيرة وبخاصة فئة الشباب منهم، رغم الفكرة المسبقة التي تكونت لدي نتيجة للقراءة والحديث مع من ارتادوا الأراضي الألمانية، ليكون انطباعي المسبق هو ارتفاع تكلفة المعيشة في العاصمة الألمانية، ومع ارتيادي السريع للمحال المحيطة اتضح أن العرب يشكلون قوة شرائية لا يستهان بها، لدرجة أنك قد تستشعر في بعض اللحظات أنك في دولة عربية وليست غربية من كثرة العرب المحيطين بك على اختلاف لهجاتهم، إلا أن الأكثر ملاحظة وهو أنه على الرغم من أن القوة الشرائية للعرب عالية في الأسواق الألمانية إلا أنني لاحظت وبصورة متكررة في عدد من المحال أن البائع الألماني يتعامل بطريقة أكثر تعاليًا لا تتناسب مع الطلب على المنتجات التي يتم شراؤها، فالبائع غير مدرك أنه لولا تلك القوة الشرائية والإقبال العربي على تلك المنتجات لما استطاع المنتجون أنفسهم أن يزيدوا من إنتاجهم أو مجرد الاستمرار على ذات المنوال. وهو الشيء الذي أصابني بالغيظ.
ومن المواقف التي لا يمكن أن أنساها هو انتشار المشردين بدرجة كبيرة، والذين يقطنون أسفل الكباري بصورة كاملة، ومنهم الرجال والسيدات، لتفوح الروائح غير المحتملة في محيط تواجدهم، بخلاف حالة الخوف التي حتمًا تصيب المارين بجوارهم، فأنت لا تدرك ردة فعلهم أو تعلم شيئا عن درجة قواهم العقلية، فما كان مني غير أن أسرع الخطوات إذا ما اقتربت من مكان تواجدهم، الذي تحيطه العديد من علامات الاستفهام التي تظهر متسارعة في ذهني أثناء محاولتي التخطي السريع لهذا المكان، ومن تلك التساؤلات هل دولة في حجم ألمانيا لا تستطيع أن توفر حياة كريمة لهؤلاء؟ ولماذا يتم تركهم هكذا؟ وأين الذوق الأوروبي الرفيع من هذا التشوه الراسخ أسفل الكباري؟ وبخلاف هذا وذاك تظهر علامة استفهام كبيرة في مخيلتي ومن الصعب محوها ترتبط بدور منظمات المجتمع المدني التي ترعى حقوق الإنسان، فأين هم من هؤلاء البشر؟ وأين المنظمات المدافعة عن حقوق المرأة في الحصول على حياة لائقة؟ وكيف يتركونها هكذا بلا مأوى؟ أم أنهم جميعًا قد غضوا البصر عن الضعفاء في هذا المجتمع؟ وللأسف لم أجد إجابة.
وفي إطار ما هو معتاد في السلوك البشري من حب للتسوق والتعرف على ما يحيطبنا من منتجات متوفرة، اقتنصت أنا وعدد من زميلاتي بعض الدقائق صباح أول أيام الزيارة وقبل بدء سلسلة الاجتماعات، ليكون مرورنا السريع على عدد من المحال في أحد المراكز التجارية الشهيرة القريبة، وفي أثناء خروجنا السريع وتحدثنا بصورة تلقائية حول إمكانية العودة مجددًا بعد انتهاء يوم العمل، وإذا بشخص ينتمي إلى فئة المشردين ويبدو عليه كبر السن ينادي بصورة هيستيرية خلفنا Egypt .. Egypt ، ليصيبنا بنوع من الخوف، المتبوع بتسريع الخطوات لنبتعد عن المكان، فنحن لا نعرف سبب مناداته بتلك الطريقة، ليتحول خوفي اللحظي إلى تعاطف بعد أن تجاوزت الموقف، ليأتي هذا التعاطف متبوعا بتفكيري في ماهية السبب الذي قد يجعله ينادي بتلك الطريقة، ترى ما هو؟ وكيف استطاع تمييز اللهجة المصرية من بضع كلمات بسيطة في إطار حديث عابر من بين أية لهجة عربية أخرى قد تمر بجواره؟ ولماذا ينادي على مصر تحديدًا؟ فهل هذا الشخص مصري؟ لا أعلم، لأدعو الله أن يتولاه في هذا المجتمع الذي لا مجال لضعيف فيه.
لنبدأ سلسلة الاجتماعات، التي جاءت بانطباعات شخصية لا مجال لنسيانها، فقبل تلك الاجتماعات رسمت في مخيلتي الهدايا التذكارية التي قد يتم منحنا إياها أثناء تلك الزيارات وفقًا لما هو معتاد في إطار ثقافتنا، لتبقى تلك الهدايا المحتملة على سبيل الذكرى أو تمتد كنوع من الترويج المستقبلي، وكذلك لم تخلُ تصوراتي حول شكل واجب الضيافة الذي يمكن تقديمه لوفد دولي، لأحصل على ذات الصدمة السابقة والتي استقبلتها فور وصولي فندق الإقامة... ليترسخ انطباعي بأن الثقافة الألمانية السائدة هي العطاء مقابل الحاجة الفعلية، لا أكثر ولا أقل، وهو ما يختلف كثيرًا عما هو معتاد في إطار ثقافتنا بشأن تلك التحضيرات لمثل هذه الاجتماعات والتي تأخذ من أوقاتنا الكثير والكثير، فلم أجد أمامي سوى ورقة بيضاء واحدة فقط وقلم هزيل، أما أصول الضيافة فلم تتعدَ زجاجات مياه تحصل منها على كوب وفقًا لاحتياجاتك إذا ما كانت الاجتماعات في الصباح، وبعض الاجتماعات تجاوزت ذلك إذا ما اقترب ميعادها من فترة الغذاء لتضع بجوار زجاجات المياه بعض النواشف، ولم أجد أكثر من ذلك فلا مجال لأي نوع من التبذير أو العطاء غير المبرر.
خبيرة اقتصادية
[email protected]