لم يعد خبرًا مهمًا ولا مدويًا للأسف، ذلك الذي ينبئ بغرق عشرات الأشخاص أو إنقاذهم، وهم على متن قوارب متجهة إلى القارة الأوروبية.
ولم يعد خافيًا التعالي الأوروبي الذي عبر عن نفسه في أسوأ صورة باستقبال ملايين اللاجئين الأوكرانيين الفارين من ويلات الحرب في بلادهم، وذلك بترحاب يليق بالبشر، ولكن مبرراته ليس لها اسم آخر سوى الانتهازية الأوروبية، فاللاجئون كما جرى الوصف مثلهم في العرق الأبيض وفي الديانة.
لم تبدأ الانتهازية الأوروبية برفض اللاجئين من الشرق الأوسط وإفريقيا، إنما الجذور تعود إلى عشرات السنين، التي نهب خلالها الاستعمار الأبيض خيرات إفريقيا، وتركها خرابًا، تعاني من التخلف والأمراض والديون التي بلغت 400 مليار دولار (أكثر من 60% منها للصين).
والمثير للشفقة أن السباق عاد مجددًا إلى إفريقيا أو عليها، ظنًا أنها الرقم الصعب في الحرب الغربية ضد روسيا وفي مواجهة الصين في القارة السمراء، فقد طاف الرئيس الفرنسي ماكرون بعواصم إفريقية، ثم تبعه وزير الخارجية الروسي لافروف، واخيرًا وزير الخارجية الأمريكي بلينكن.
يتزايد عدد الأفارقة المتعلقين بالحلم الأوروبي للخلاص من واقع متردٍ في بلادهم، وتشير المعلومات إلى زيادتهم في الصيف، عبر البحر الأبيض المتوسط بحثًا عن فرصة للحياة، بينما ترتفع بشكل مطرد أعداد الغرقى على شواطئ جنوب أوروبا، وربما قبل رؤيتها بالعين المجردة.
وتحاول دول شمال المتوسط منع الهجرة من شواطئها، فيما تضطرهم دول أوروبا على المتوسط إلى الغرق.
وتلقيت أخيرًا بيان لجنة الإنقاذ الدولية الذي يدعو الاتحاد الأوروبي إلى توسيع مسارات آمنة ومنتظمة للحماية في أوروبا بشكل عاجل، حتى لا يضطر الناس إلى المخاطرة بحياتهم في عبور البحر الأبيض المتوسط القاتل.. ووصفت اللجنة الرحلة من شمال إفريقيا إلى أوروبا بـ"الغادرة"..
وتفصح معلومات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين، عن وصول أكثر من 35 ألف شخص خلال العام الحالي إلى إيطاليا عن طريق البحر، بزيادة حوالي ثمانية آلاف حالة عن نفس الفترة من العام الماضي.
وفي الطريق إلى إيطاليا غرق 875 شخصًا في البحر المتوسط؛ إذن المجموع يقل عن 36 ألف شخص إفريقي قصدوا الهجرة إلى إيطاليا هذا العام، وُتركوا نهبًا للبحر وفي قوارب متهالكة ومن دون أي مساعدة؛ لأنهم تمكنوا من الوصول إلى هذه النقطة في رحلتهم بعد مغالبة حراس حدود بلادهم وشرطة وخفر السواحل على شواطئ الدول المتوسطية وعصابات وتجار البشر، لكي تصدهم أوروبا التي استقبلت بلدًا واحدًا منها فقط هي بولندا أكثر من خمسة ملايين لاجئ أوكراني في أقل من ستة أشهر.
هناك قناعات فكرية في أوروبا يقودها مثقفون وعاملون في مجال الإغاثة ودعم المهاجرين، بضرورة الإتيان بتصرفات حكومية تتسم بالإنسانية تجاه هؤلاء، ولخصت مديرة مكتب لجنة الإنقاذ الدّولية في إيطاليا، سوزانا زنفريني، القصة في العبارة التالية:
"لا ينبغي إجبار أي شخص على المخاطرة بحياته في قارب متهالك أو سفينة غير صالحة للإبحار بحثًا عن الأمان والحماية، ومع ذلك، مرة أخرى هذا الصيف، نشهد ارتفاعًا حادًا في عدد الأشخاص الذين يحاولون عبور أحد أكثر طرق الهجرة فتكًا في العالم، فترك العديد من هؤلاء الأشخاص ديارهم بسبب تزايد انعدام الأمن الغذائي والبطالة وتأثير تغير المناخ، مع فرار البعض من العنف أو الصراع أو الاضطهاد في دول مثل أفغانستان أو السودان أو الصومال".
وتصف زنفريني مركز استقبال في جزر لامبيدوسا في إيطاليا بأنه ممتلئ حاليًا بأكثر من أربعة أضعاف سعته، بينما يمكن وينبغي تجنب هذا الوضع اليائس، بدلًا من التنصل من مسئولياتهم وتجريد الأشخاص الباحثين عن الحماية من إنسانيتهم، ويجب على إيطاليا ودول الاتحاد الأوروبي الأخرى التعاون والترحيب بالوافدين الجدد بإنسانية وكرامة وروح من التضامن.
وتعود المسئولية التاريخية عن الوضع اليائس الذي يدفع الأفارقة في موسم الهجرة غير الشرعية إلى شواطئ المتوسط للبحث عن أي وسيلة تقلهم إلى الشمال، إلى الدول الأوروبية نفسها، فقد أثقلت الدول التي تشكل الاتحاد الأوروبي الآن كاهل دول إفريقيا، بعد نهب منظم لمواردها، بالديون، وتركت معظم دولها من دون بنية تحتية أساسية، ومن دون صناعات، أو استثمارات، وكأنها تعاقبها بقسوة على مطالباتها ذات يوم بالاستقلال، بينما تتدخل عسكريًا أحيانًا وسياسيًا في أحيان كثيرة لدعم نظم وحكومات وانتفاضات.
هكذا انتهزت أوروبا إفريقيا مرتين، الأولى مع موجات الاستعمار والنهب المنظم، والثانية في التخلي عن التزامها الأخلاقي تجاه المهاجرين الأفارقة، وعدم تنمية الدول الإفريقية وبدلا من ذلك إغراقها في الديون التي تفاقمت في العامين الأخيرين.
ومن المؤكد حسب لجنة الإنقاذ الدولية أن المزيد من الأشخاص اليائسين سيحاولون مرارًا وتكرارًا، الوصول إلى الشواطئ الأوروبية طالما استمرت الأوضاع والظروف في بلادهم على حالها.
إن أزمة المهاجرين الأفارقة لا يمكن فصلها عن أزمة المجتمعات التي ينحدرون منها، وأزمة حكوماتها التي تعاني من المشكلات الاقتصادية الطاحنة وثقل الديون وفوائدها وأقساطها، وتنوع المتصارعين الكبار على النفوذ في القارة.