واحة سيوة وما أدراك ما واحة سيوة! التفرد والتميز والخصوصية فى كل شيء هو انطباعك الأول منذ أن تطأها قدماك، الجلباب السيوي الشهير فى كل مكان يرتديه الجميع صغارًا وكبارًا، المباني تدور بعقلك تأخذك بعيدًا بعيدًا فتشعر فجأة أنك أحد أبطال فيلم قديم جدًا، حيث لا تكاد ترى منزلًا ذى ثلاثة أدوار حتى تجد عشرات البيوت الصغيرة بسيطة البناء تترامى هنا وهناك، مع بساطة الشوارع والطرقات التى تخلو من الأسفلت إلا ما ندر منها، رائحة زيت الزيتون تقتحمك دون استئذان.
فأشجار الزيتون ومحلات بيعه فى كل مكان، النخيل يكاد يغطي الواحة بأكملها فى مشهد رائع تراه أبهى ما يكون من فوق قمة جبل الدكرور الشهير،
وإذا زرت سيوة فلابد وأن تزور جزيرة فنطاس لترى أجمل غروب شمس قد تراه عيناك، حيث توجد ثلاث تلال صغيرة على الجانب الآخر من البحيرة، وتأتى لحظة الغروب فتجد تلك التلال تفتح ذراعيها لتحتضن ذلك الوافد العظيم، فى مشهد يصعب تكراره فى مكان آخر.
غالبًا ما يحرص زائرو الواحة على تخصيص عدة أيام من رحلتهم لتجربة العلاج على الطريقة السيوية، وهى تشمل عدة أمور مثل الدخول إلى كهوف الملح، وهى كهوف صناعية بها نظام إضاءة خافت شاعري، وأرضية مليئة بقطع الملح التى يتم تغطية الأرجل والأيدي بها وأنت نائم فوقها، لتغمض عينيك وتبقى حوالي نصف الساعة محاولًا التخلص من كل الأفكار السلبية والذكريات السيئة، هكذا يطلبون منك ويؤكدون عليك في بداية اللقاء حتى يتحقق الغرض وتتخلص من الطاقة السلبية.
هناك أيضًا زيارة مهمة إلى بحيرات الملح، وما أروع ما رأيت، سبحان الخالق الوهاب، منطقة شاسعة مليئة بالبحيرات شديدة الملوحة، اللون الأبيض يحيط بشاطئ البحيرة من كل جانب، يظل الملح يتزايد في قاع تلك البحيرات حتى تمتلئ به – هكذا أخبرونا – ثم تأتي الآلات لإزالة كميات الملح الكبيرة التي قد تصل في بعض الأحيان إلى عمق 12 مترًا، وبعدها بشهور قليلة تمتلئ البحيرة بكميات مماثلة مرة أخرى، لتتكرر نفس الرحلة من الإزالة والامتلاء، وبين هذا وذاك يأتي الزائرون من كل مكان للاستحمام في بحيرات الملح والاستفادة منها، لكن احذر أن تدخل المياه إلى عينيك فسوف تجرب "حرقان" ليس له مثيل، من لا يجيد العوم لا يقلق من نزول البحيرة، ففي تلك المياه لا أحد يغرق، مياه مالحة تحملك لأعلى دائمًا.
فى واحة سيوة: إكرام الضيف دفنه، هكذا قالها الصديق السيوي الذي يعمل فى المردم وهو يهيل الرمال فوقي، ضحكت، ثم أدركت أنها حقيقة بالفعل، إذا ذهبت إلى سيوة بغرض العلاج سوف تذهب بالضرورة إلى أحد المرادم ليتم ردمك أو دفنك في الرمال، وسوف تكون أولى كلماتك للمعالج: مش هاوصيك، عايز دفنه تمام، لذلك قالوا: إكرام الضيف دفنه، عملية الدفن لمن يجربها للمرة الأولى قد تكون مرعبة، خاصة عندما يصل إلى منطقة الردم الشاسعة المليئة بالخيام والحفر الصغيرة التى تناسب حجم الجسم.
إياك أن تخلع نعليك لتتحسس سخونة الرمال، سوف يصيبك ذلك بالرعب وقد تتراجع، حدث ذلك معي، وكنت على وشك التراجع لولا أنني رأيت الزملاء يرقدون في قبورهم، أقصد كل في حفرته بكل هدوء، ويتم ردمه بالرمال دون أي مشكلة، فقررت أن أخوض التجربة، عندما ترقد في الحفرة تشعر بسخونة الرمال في اللحظة الأولى، ثم يصبح الأمر عاديًا جدًا بعد تغطية كامل الجسم بالرمال، بل قد يحلو الأمر لك وترفض الخروج وتطلب إطالة فترة وجودك في الحفرة، السخونة الشديدة أصابت فقط بطن القدم دون باقي أجزاء الجسم، قالوا لي إن هذا نتيجة زيادة الأملاح في الجسم.
لا تتصور أن الأمر قد انتهى، لقد بدأت رحلتك للتو، الدفن قد لا يستغرق عشر دقائق، بعدها تقوم من الحفرة عاريًا فيقوم المرافق بتغطيتك فورًا ببطانية ثم يأخذك بين يديه ويضعك في الخيمة، وما أدراك ما الخيمة! خيمة صغيرة يتم غلقها جيدًا عليك، ويكون مطلوبًا منك الجلوس في وضع القرفصاء أو النوم على جانبك في وضع "الجنين" أو على ظهرك أو بطنك للاستفادة من حرارة الرمال، خلال تلك الرحلة سوف يتخلص جسمك من كميات عرق لا تتخيلها، سوف ترى آثارها على الرمال المبتلة من حولك، المشكلة الحقيقية هي نفاد الأوكسجين بعد فترة، وما يتبعه من صعوبة التنفس، سبب لي ذلك في اليوم الأول حالة من عدم الاتزان، لدرجة أنني لم أستطع ركوب السيارة نصف النقل ذات المقعدين المتقابلين، ولم أجد حلًا سوى إلقاء نفسي على الأرض بين اقدام باقي الزملاء، لحظات وبدأت استرد وعيي، سمعت شخصًا يردد: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، فتحت عيني وأنا راقد على الأرض فرأيت العيون تحيط بي من كل مكان، تراقبني بقلق، وكأنها تنتظر خروج السر الإلهي، نظرت إليهم ثم ابتسمت وقلت لهم: وصلنا البقيع ولا لسه؟ قالوا بتعجب: البقيع! قلت: نعم ادفنوني في البقيع.
لم تنته الحكاية، فالمعاناة الفعلية تبدأ بعد الدفن ودخول الخيمة، بعد عودتك إلى السكن يجب عليك البقاء بالرمال على جسمك دون استحمام طول فترة العلاج التي تبدأ من ثلاثة أيام أو خمسة أو سبعة حسب كل حالة، طبعًا سوف تقع بعض الرمال وحدها بعد ساعتين أو ثلاثة، لكن ما يتبقى على جسمك يحذر عليك إزالته.
الاستحمام ممنوع إلا بعد ثلاثة أيام من انتهاء عملية الدفن على أقل تقدير، كان هذا هو الجزء الأصعب في الرحلة، خاصة أن الدفن لا يكون إلا في أشهر الصيف شديدة الحرارة، وممنوع وجود تكييفات أو مراوح في الغرف، فهذا قد يسبب لك كارثة في ظل الحرارة الشديدة التي يتعرض لها جسدك خلال عملية الدفن، وممنوع تناول المرطبات أو المياه الساقعة، هم سوف يأتون إليك بطبق الشوربة اللذيذ، ومعه كوب الليمون "برضه مش ساقع" فور عودتك من الدفن.
أهل سيوة أهل كرم وحفاوة، الصغار قبل الكبار، وقد سعدت بالتعرف إليهم وتكوين صداقات معهم، الحاج محمد وأسرته كانوا خير نموذج مشرف يمكن أن تتعرف من خلاله على أهل الواحة.