لم يَجُلْ بخاطري يومًا أن ألتقيه، وإنما وجدت نفسي تحثّني أن أراه، بل تلومني وقد قطعت شوطًا زمنيًّا أقرأه وأعرفه وأغوص في عالمه، لكن دون أن ألقاه أو ألتقيه، رغم ما لدي من بواعث قوية تحركني، ذهبت ألتمس الأسباب وأجول بينها أختبر قوتها ومنطقها وأصداءها لأقدمها له وأنا مطمئن، أملك قناعة عقلية أتجادل بها مع من له من الصرامة والحِدَّة باع، ومَنْ له أيضًا من الرِقَّة والوداعة والألفة والوقار باع وباع، ذلك أنه الأب الرُوحِي للثَقَافَة المصرية الحديثة الذي يتضاءل أمامه أي سرد مهما تكن حنكته في التوصيف والتخيل والاستشهاد وتعدد الملكات، لكن الشغف والحماس كانا هما الفضيلة التي دفعت بشاب أن يقتحم معبد الراهب مع تقديره البالغ لذلك الشموخ والأسطورية الذاتية التي تجعل مهابة لقائه أيسر كثيرًا من جفوته وهجره.
هاتفته وجاءني صوته الرقيق الحاني يحمل رفضًا مقنعًا لأية حوارية حول أعماله، فلم أردَّ إلا بمقولة شكسبير "إذا لم أتكلم أنا... فمن؟ وإذا لم أتكلم الآن فمتى؟"، عندئذٍ، وتحت وطأة الحرج، لم يكن منه إلا أن ضرب لي موعدًا حفظتهْ ذاكرتي المشحونة، لكن المصادفة وحدها قد خلقت لي لقاءً آخر حدَّده شيخ الفلاسفة د. زكي نجيب محمود لأقرأ عليه مقدمة أولى كتبي فهرولت إليه أملًا في لقاء عابر لأتهيأ إلى لقاء آخر، لكن المصادفة الأخرى أن شيخ الفلاسفة قد اسْتَمْرَأَ الحديث معي ليمتد طويلًا على غير توقُّع وينسف الموعد الآخر، وقد توجَسْتُ من مهاتفة د.ثروت عكاشة، وآثرتُ أن يكون الاتصال من صديقي د.علاء طاهر، وقد اشترطت عليه أن يحادثه بالفرنسية التي يعشقها، ويقدم من المعاذير ما يكفي وألححت عليه ألا يتركه إلا بموعد، وقد كانت العاصفة حين التقيته، فكان منه ذلك الهدوء المبطن بالغضب والسعادة الخفية بالحرص على لقائه، لكنه ثأرًا قد أصبح معاتبًا لائمًا مستنكرًا في استحياءٍ عدمَ الاعْتِبَار بأقدار البشر، والاستهانة بقيمة الوقت، وأفاض في أن أجيالنا هي أجيال رخوة لم يكن لها مطلقًا أن تقوم عليها ثَوْرَة يوليو التي كان أحد رموزها إلى غير ذلك.
وقد آثرتُ الصمت اعترافًا بالخطأ، واعتمدته إستراتيجية تكفُّه عن الاسترسال في اللوم والتأنيب، فقال أول ما قال: ماذا قرأت لي حتى تحاورني؟ وقد عدَّدت له كل ما قرأت له وعنه، وقد أصاب ذلك رضا في نفسه تجلَّى في بشاشة وجهه وانفراج أساريره، لكني تحفظت لنفسي قبل إجراء الحوار قائلًا: إذا لم يكن الحوار على المستوى الذي ترتضيه فلك كل الحق في مقاطعته، وقد تشعب بنا الحديث نحو منعطفات كثيرة، لكنه انتهى إلى ملاطفة منه وامتنان، وطلب إلى السماح بإهدائي إحدى روائعه، فكان ذلك شرفًا رفيعًا لشاب يحظى بتكريم يتجاوز أية جائزة.
وكانت هي البداية لصداقة حميمة تأكدت أواصرها حين دعاني لحضور حفل منحه جائزة اليونسكو في المتحف المصري، وقد ظللت لصيقًا به لساعات طوال تخلَّلها حديث هامس ودعابات ثَقَافِيَّة.