في مثل هذه الأيام قبل 32 عامًا، الخبر العاجل عبر وكالات الأنباء كان شديد الغرابة! رُبما كان بإمكانك كمستمع أو مشاهد أن ترصد الدهشة في نبرة قارئ النشرة مهما حاول بحرفية أن يواري ذهوله! إلى الآن ما زلت متذكرًا مقدار اغتمام أبي في مقتبل أربعينيات عمره وهو ينصت إلى هيئة الإذاعة البريطانية غير مصدق هذا النبأ الأسود! محظوظون مَن لم يشهدوا اللحظة التي كانت معولًا رئيسًا في جدار العرب. نهار الثاني من أغسطس/ آب عام 1990 اجتاح الرئيس العراقي "صدام حسين" أرض الكويت.
أحب والدي الكويت التي عاش فيها أيامًا سعيدة مطلع حياته الوظيفية، كذلك كان معجبًا بكثير مما كان يُتداول دعائيًا عن الرئيس العراقي. السمت الخارجي لصدام حسين بشعره الأسود الكثيف وشاربه الكث وحلته العسكرية الحاسمة، كان يلقى أصداءً حسنة في نفوس جيل أبي الذي تربى على أن الكيان الصهيوني خصمٌ أبدي، هذا الجيل عاصر لحظات ورود أخبار استشهاد أقارب وأصدقاء وجيران له على الجبهة، وفجأة كان عليه التعايش مع حقيقة أن مصر وقعت معاهدة سلام مع العدو، وأن فلسطين لن تُحرر قريبًا، بعضهم بهذا الجيل ممن ظلوا متشبثين بما تربوا عليه من شعارات القومية العربية، وجدوا في المظهر العسكري لصدام حسين وهو على رأس الجيش العراقي رغم الإنهاك في الحرب مع إيران، بصيص أمل رُبما يهدد ذات يوم محتلي الأرض العربية، سيّما إن قورن صدام بغداد بمبارك القاهرة أو قذافي طرابلس أو الشاذلي بن جديد في الجزائر. لذا قد نستطيع القول إن صدام قبل صيف 90 الحار كان في مخيلة بعض العرب هو آخر الذكور الفاعلين بهذا الجيل من حكام المنطقة، ثم كانت المفاجأة القاصمة! هذا الذكر العسكري العراقي لم يعجز فقط عن فداء الأقصى بالروح أو الدم، لكنه وفي مهزلة قومية احتل الكويت! يا إلهي! كم كانت تلك اللحظة بالغة القسوة على هؤلاء الذين ترعرعوا في مطلع تكوينهم على سماع أوبريت "الوطن الأكبر"، وقد تحتم عليهم الاختيار ما بين تحرير الكويت أو ضرب العراق! أكان لا بدَّ يا مهيب الركن أن تضع مَن عاشوا تلك الأيام في هذا الخيار الشرير!
في هذه الحقبة كنتُ قد حصلت للتو على الشهادة الابتدائية بمجموع 97 بالمائة، وكلي شعور بالفخر ليس فقط بسبب مجموعي، وإنما أيضًا لتعادل منتخبنا القومي لكرة القدم مع هولندا 1/1 بكأس العالم وتعادلنا مع أيرلندا 0/0 وإخفاقنا بنتيجة مشرفة 1/0 أمام انكلترا، كل همومي حينها كانت حتمية الإسراع بشراء شرائط كاسيت المطربة حنان "البسمة" وحميد الشاعري "شارة" وعلي حميدة "لولاكي" قبيل انتهاء العطلة الصيفية، والعودة رفقة أبي والأسرة إلى مدينة "رفحاء" بالمملكة السعودية والتي تبعد كيلومترات معدودة عن الحدود مع العراق! لكن هل سنعود؟! الصيف الساخن يشي بأن الأحداث بالكاد بدأت! فعقب خبر الاجتياح شرعتْ باقي الأنباء العجائبية تتوالى، لجأ آل الصباح إلى المملكة العربية في ضيافة آل سعود بالطائف، الضابط الكويتي العقيد "علاء حسين" ترأس حكومة جمهورية الكويت الحرة! وعقب أيام أُعلنت الكويت بأسرها محافظة عراقية! هكذا كانت كل الأنباء القادمة من بغداد مدعاة للجنون! وحين أتأمل الآن، أكتشف كم كان هذا الأغسطس البعيد البغيض فارقًا في مكونات الفهم العربي للأشياء، لم يعد تعبير "الأرض المحتلة" بالصحف حينئذ يعني فلسطين وفقط! صار لدينا وطنان محتلان! لم يعد تعبير "جنود الاحتلال" يعني جنود الكيان الصهيوني وحده! كان من الكوميدي الأسود أن تُستهل نشرات الأخبار بجملة "ومن أنباء الاحتلال العراقي الغاشم..."، هذا الشرخ الأوليّ في وقع المفردات المسلم بها في الذهنية الجمعية العربية، أصبح في أعوام ما بعد 90 كسرًا مضاعفًا، مُرر من خلاله كل ما سيتحول بخريطة الوطن العربي الذي نعرفه، إلى شرق أوسط جديد!
ثم قرر أبي "رحمه الله" عقب انقضاء عطلتنا بالقاهرة أن نعود إلى رفحاء وسط الصحراء جوار حدود العراق، لم نجد المكان كما تركناه قبل بدء العطلة! صار ثكنة عسكرية لضباط وجنود العالم الذي عز عليه كثيرًا الكويت أو نفط الكويت! وبطبيعة الإجراءات المتبعة، ولأن والدي عمل بالتدريس هناك، فقد سلمنا جوازات سفرنا إلى وزارة المعارف السعودية، ولم يعد بإمكاننا المغادرة! وعقب أشهر قلائل نشبت الحرب، امتزجت صفارات الإنذار بأغاني حنان والشاعري وحميدة! ورُبما ذات يوم سوف أحكي كيف كانت الحرب من الداخل بعيدًا عن سردية الـ CNN وكل نشرات الأخبار.
للتواصل مع الكاتب عبر تويتر:
twitter.com/sheriefsaid