منذ أكثر من نصف قرن، بادرت القاهرة بالتعاون والتنسيق مع الأشقاء في القارة الإفريقية، وأسست، مع 32 دولة إفريقية، أول وحدة للقارة في مايو 1963، وولد أول كيان يحمل اسم "منظمة الوحدة الإفريقية"، واجه هذا الكيان تحديات اقتصادية وسياسية عديدة، خرجت منها القارة أكثر قوة متحدة مستقلة.
واليوم، ومع تنامي التحديات المناخية واستحقاقات الأمن البيئي الإفريقي والعالمي، ومع التمسك بحق الدول الإفريقية العادل في التنمية والسلام والاستقرار والنمو، فإن القاهرة بصدد إعادة التأكيد على التزاماتها القارية، بإطلاق مبادرة "إفريقيا الخضراء"، التي تأتي استكمالا وتطويرًا لالتزامها في الماضي البعيد، وأيضا القريب، عندما دعت أمام قمة جلاسجو بأسكتلنده "COP26"، إلى ضرورة منح القارة الإفريقية معاملة خاصة في إطار تنفيذ اتفاقية باريس عام 2016، واتساقا لمصداقية هذا الالتزام التاريخي، نحو القارة، تم اختيار مصر لاستضافة القمة القادمة "COP27" للمناخ باسم القارة الإفريقية.
من هنا تولدت الحاجة إلى مبادرة للوصول إلى إجماع إفريقي تحت المظلة الدولية، مفاد هذا الاجماع وعنوانه: لا مفر من التعاون والتكامل والتنسيق داخل الكيان القاري؛ بهدف تحويل القارة الإفريقية إلى قارة خضراء بديلا عن المسمى البغيض، وهو ماكان يطلقه المستعمر عليها في الماضي، واعتبرها "القارة السوداء"، ليتمكن من استغلالها عبر فرض الرسوم وتشغيل الأطفال في المناجم واستخراج المواد الخام لتدوير مصانعه ومفاعلاته.
مبادرة "إفريقيا الخضراء" هي تطوير واستمرار وتفعيل لدور مصر النشط والمبكر والفاعل في الشأن البيئي والمجال الحيوي والمناخي، هي مرحلة أو حلقة جديدة مهمة جديدة متجددة في سلسلة جهود مصر منذ أنشائها أول وزارة للبيئة، وإصدارها أول قانون للبيئة ينطلق من أرضها على مدى الإقليم منذ نحو 4 عقود، والمبادرة هي تجديد وتنشيط واستمرارية لدور مصر الإفريقي نحو قارتها ومجالها الطبيعي والجغرافي، فالقارة الخضراء بمثابة كيان واحد متكامل ومتجانس.
نعلم جميعا أن إفريقا هي في الواقع قارة تتميز وتمتلك من الموارد مالا تمكلة الكرة الأرضية جمعاء، حيث جغرافيتها وموقعها المستقل والمتعدد يتيح لها المزيد من التفرد والتميز، فاذا كانت كافة دول العالم، قد اتفقت عبر منصات الأمم المتحدة ومؤتمراتها، على أن تمول الدول الصناعية المالكة للخبرات والموارد والتقنيات، عمليات مواجهة المناخ في الدول النامية، وان تزيد الدول المتقدمة من الدعم في مجال تخفيف آثار المتغيرات عبر تخفيف الانبعاثات والبحث عن مصادر طاقة متجددة غير تقليدية، إضافة إلى التكيف مع المتغيرات المناخية، فإن القارة الإفريقية الخضراء تمتلك ما يفتقده العالم من تكامل، وهو الكثير في مجالات إدارة المياه، والزراعة الذكية، مثل إدخال البذور المقاومة للمناخ، ما يساعد المزارعين على إنتاج الغذاء وكسب الدخل عبر مواجهة الجفاف والأحوال الجوية الصعبة التي يسببها المناخ.
ولعل مبادرة "إفريقيا الخضراء" تشرع في الانطلاق الرسمي، لتعويض القارة عما فقدته في الماضي، ومازالت، لتبدأ انطلاقتها خلال أعمال مؤتمر الاطراف بشرم الشيخ نوفمبر المقبل..لانقول إننا نتوجه إلى القارة، حيث القارة هي أحد ملامح والسمات الوطنية المصرية، وهي من ثوابت العملي الرسمي وغير الرسمي المستقرة؛ سواء في مصر أو في الدول الإفريقية، ولعل التزام القاهرة ومسئولياتها نحو مجالها الحيوي والقاري، والذي تم التأكيد عليه العام الماضي في جلاسجو، يتيح اليوم لتبني مبادرة من شأنها تمهمد الطريق وتتكامل فيها الأدوار فيما بينها وتنسق فيها إجراءات بناء قدرة القارة وشعوبها على الصمود مع تغير المناخ.
على المستوى الرسمي، فقد حقق الجهد الرسمي، ومازال، نتائج جيدة، من بينها الإعلان عن إطلاق مركز الاتحاد الإفريقي لإعادة الإعمار والتنمية فيما بعد النزاعات بالقاهرة، العام الماضي، وهي خطوة جديدة تؤكد حرص مصر الدائم على دعم الاستقرار والتنمية في الدول الإفريقية الشقيقة، واضطلاعها بدور محوري، كما تولت مصر، خلال نوفمبر الماضي، الرئاسة الدورية لمجلس السلم والأمن الإفريقي، لتشكل خطوة جديدة لتعزيز مكانتها في العمل الإفريقي المُشترك.
وللوصول إلى برامج وتنفيذ خطط تستهدف تحقق الاستدامة الإفريقية في التكامل والتنمية التي تحتاجها القارة، وهو ما حرصت عليه القاهرة، حيث تنظم رئاسة المصرية لقمة المناخ “COP27” ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لإفريقيا، الثلاثاء المقبل، منتدي بعنوان: "تجاه كوب 27: المنتدى الإفريقي الإقليمي حول مبادرات المناخ من أجل تمويل مشروعات المناخ وأهداف التنمية المستدامة" بأديس أبابا.
المنتدى المرتقب، سيبحث في آليات حشد التمويل والاستثمارات لمواجهة التغيرات المناخية وتشجيع القطاع الخاص على الإسهام في بناء الصمود في مواجهة التغيرات المناخية وتعزيز تنفيذ أجندة الاتحاد الإفريقي 2063 وأجندة الأمم المتحدة 2030، ويهدف إلى تحديد وتبادل فرص التمويل والاستثمار نحو الطاقة النظيفة والأمن الغذائي والتحول الرقمي والتي تعد من مفردات تحقيق أهداف التنمية المستدامة، والوصول للطاقة وأمن واستقرار وعدالة نقل الطاقة، والأمن الغذائي والزراعة الذكية، وبناء الصمود القائم على مراعاة النظم البيئية، والتحول الرقمي وتنمية أسواق ائتمان الكربون في إفريقيا، والاقتصاد الأزرق، والمياه والمدن النظيفة.
إفريقيا لديها الكثير، والقاهرة تذخر بالعديد من الخبرات والمبادرات والمشروعات والخطط التكاملية لمستقبل آمن للقارة الخضراء وللعالم في وقت واحد..وللقارة الخضراء، مع القاهرة، أدوار عديدة تضطلع بها، وهو حديث الاسبوع المقبل، باذن الله.
[email protected]