أصدرت سلسلة التراث الحضاري بالهيئة المصرية العامة للكتاب، كتاب "الجُمَاهِرُ في مَعرِفَةِ الجَوَاهِرِ، من تأليف: أبي الريحان محمد بن أحمد البَيرُوني الخوارزمي (362هـ -440هـ / 973م - 1048م)، دراسة وتحقيق: أ.د. طارق نازل، والذي صدر حديثاً في قرابة الأربعمائة صفحة، ويحمل رقم (45) من إصدارات السلسلة.
بدوره يتحدث الأستاذ الدكتور طارق نازل أستاذ ترميم الأحجار الأثرية والعميد السابق لمعهد الدراسات العليا للبردي والنقوش بجامعة عين شمس، فيقول: إن الدراسة العلمية الجديدة لكتاب الجماهر في معرفة الجواهر تهدم نظرية دارون قبل نشوئها بألف عام!، وبالرغم من أن عنوان الكتاب لا يمت بصلة إلى علم الأجناس أو الأنثروبولوجيا؛ وإنما كتاب في علم المعادن والأحجار الكريمة، إلا أن هدمه لنظرية دارون من حيث تاريخ افتراضها وصحة فرضيتها أمر تم استنباطه وإثباته".
في هذه الدراسة العلمية التي قدمها الأستاذ الدكتور طارق نازل أستاذ ترميم الأحجار الأثرية والعميد السابق لمعهد الدراسات العليا للبردي والنقوش بجامعة عين شمس، وهو إن كان أمر يدعو ذكره في سياق كتاب في علم المعادن إلى التعجب والإعجاب معاً، إلا أن ما يقلل درجة التعجب منه ويزيد درجة الإعجاب به أن المؤلف البيروني ليس عالماً في المعادن وحسب؛ وإنما ألف في علوم شتى منها كتاب يعتبر أحد أبرز الدراسات الأنثروبولوجية الرائدة التي تعد بحق المشروع التأسيسي لعلم الأنثروبولوجيا وهو كتاب "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة".
ولكن لأن الكتاب في علم المعادن فسنترك أمر علم الأجناس إلى نهاية المقال، ونُسلط الضوء على الكتاب ودراسته من حيث تخصصه العلمي؛ حيث اعتبره بعض الباحثين الموضوعيين الغربيين بأنه من أهم ما عرفته البشرية في علم المعادن حتى منتصف القرن السادس عشر... ولا نبالغ حينما نقول أن هذا الكتاب قد صدر مصحوباً بكتاب آخر في شكل دراسة علمية موسعة؛ حيث بلغت قرابة المائة وخمسين صفحة؛ حيث تم تسليط الضوء فيها على "الكشوفات" وليس "الاكتشافات" العلمية الأوربية الكثيرة في مجال علم المعادن بعد عصر النهضة، والتي تحدث عنها البيروني في كتابه قبل الأوربيين بقرون عديدة!! .
وتكشف هذه الدراسة العلمية المهمة للكتاب عن شيئين رئيسين؛ أولهما أنه بالرغم من وجود عشرات المؤلفات المخصصة لعلم الأحجار الكريمة والمعادن قبل كتاب البيروني وبعده أيضاً، إلا أنه ظل يحتفظ بمركز الصدارة في العالم أجمع، من حيث أهميته العلمية، حتى منتصف القرن السادس عشر، أما الشيء الثاني فهو تعمد علماء الغرب عدم تسليط الضوء عليه بالرغم من أنهم لم يبخلوا في الحديث عن كتب أخرى، ليس لها من الناحية العلمية أية أهمية مقارنة بكتاب البيروني، وذلك في مفارقة كبيرة جداً في تاريخ العلم، والتي تضع القارئ أمام تساؤلات هامة حول مصداقية وموضوعية تاريخ العلم المدون بأيادي غربية!! وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عدم مصداقية وميل عنصري ساءه أن يُنتسب الفضل والسبق العلمي في مجال علمي للحضارة العربية والإسلامية.
وهنا طرح الدكتور طارق نازل في دراسته عن الكتاب سؤالا هاما مفاده، ما هي جدوى تتابع مراحل تطور علم من العلوم إذا استثنينا من هذا التتابع، منجزات أحد أعظم علماء هذا العلم وأعني هنا البيروني، مع العلم أن الكثير من المعلومات "العلمية" التي وردت في مؤلفات المرحلة الزمنية التي سبقت البيروني ولحقته في القرون الوسطى وحتى مطلع القرن السادس عشر، قد صنفها البيروني في كتابه الجماهر على أنها من "الخرافات والأساطير".
وبالرغم من أن الكتاب قد تم تحقيقه ونشره من قبل، ولعل أولها كان للمستشرق الألماني فريتز كرنكو، بعد أن قام بجمع مخطوطاته ونشره عام ١٩٣٦م في حيدر آباد في الهند، إلا أن الطبعة التي صدرت في هيئة الكتاب المصرية قد قدمت ما لم يتم تقديمه من قبل سواء في التحقيق أو الدراسة، حيث أثبتت أن البيروني استطاع قبل عصر النهضة أن ينقل علم المعادن من مرحلة العلم الوصفي الذي كان يعتمد بشكل أساسي على وصف اللون والصلابة والملمس، إلى مرحلة العلم الدقيق، الذي يعتمد على الأرقام والمعادلات الحسابية؛ فالبيروني كان أول من اعتمد الوزن النوعي في دراسة المعادن وتصنيفها وصمم جهازاً دقيقاً للقياس وبالدقة التي لم يتم الوصول اليها إلا في القرن الثامن عشر.
أثبت دراسة كتاب "الجُماهر" معلومات لم يكن بوسعنا معرفتها بخصوص قيمة الماس عند العرب والمسلمين، حيث لم يحتل منزلة رفيعة كالتي خصه بها أهل الهند مثلاً، حيث أثبت أنه كان يأتي في منزلة أدنى من كثير من الأحجار الكريمة مثل الياقوت والزمرد واللؤلؤ، حيث ذكر البيروني ما نصه: "وليس يميز أهل العراق وخراسان بين أنواع الألماس وألوانه وكلها عندهم سواء بمثابة واحدة إذ لا يستعملونه في غير الثقب والتسميم ولا يعظمونه تعظيم الهند إياه".
ويؤكد البيروني هذا المعنى بتعليله تقديم ذكر الماس على ما ذكرنا من الجواهر بقوله:"لأنه فاعل في الياقوت فيما دونه وغير منفعل بشيء فوقه ولا يتأثر مما دونه". كما أثبت بما لا يدع مجالاً للشك سبق المسلمين والعرب للعالَم الغربي بقرابة الخمسة قرون في دراسة الخواص البلورية والبصرية للماس، حيث ذكر أحد علماء الغرب وهو الباحث الروسي بورمين معلقا ومستشهدا بفقرات من كتاب بليني العالم الروماني الشهير متعجبا من أنه لم يشر ولا بشطر كلمة إلى القيم الجمالية للماس ثم يستدرك بقوله:"إن الماس يندر أن يشاهد في الطبيعة بوجوه مصقولة، ولذلك فإن جماله ظل مخفيا حتى القرن الخامس عشر"، بينما ما أورده البيروني في الجماهر يُبرهن على أن المسلمين قد قاموا بدراسة أشكال الماس ذات الأوجه المصقولة، بل وفرقوا بين أنواعه طبقا للونه وأشكاله البلورية، واستشهد بفعل العالم الكبير الكندي في فحص الماس بقوله:
"وطريق اختباره أن يجعل طرف منه في شمعة لتمكن الأصابع من إمساكه ثم يقام بإزاء عين الشمس فإن سطعت منه حمرة ولهبة على مثال قوس قزح كان هو المختار وليس يسطع ذلك إلا من الأبيض والأصفر منه فقط". وأثبتت الدراسة أيضاً أن علماء المعادن المسلمين قد عرفوا ظاهرة علمية لم تُعرف إلا في معطيات العلم الحديث، ألا وهي ظاهرة لعب الألوان "Play of color" وهي باختصار ظاهرة تنشأ نتيجة مجموعة من الانعكاسات والانكسارات الضوئية الناتجة عن سقوط شعاع الضوء على سطح البلورة ومروره من خلالها، ونتيجة لذلك ينتج عدد من الأشعة الضوئية بأطوال موجية متباينة، والتي من شأنها التداخل مع بعضها البعض مشكلة لهذه الألوان المتعددة التي تظهر في البلورة. والذي يحدد طبيعة هذه الألوان الناتجة هي الزوايا المتشكلة ما بين الأشعة الضوئية الساقطة وبين أسطح البلورة، لذلك فإنه لابد لهذه الألوان البديعة من أوجه بلورية مصقولة وذات زوايا مختلفة حتى تتعامل مع الضوء مكونة لها. وقد أورد البيروني عن هذه الظاهرة فقرات كثيرة في الكتاب نقلا عن الكندي ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما ذكره في وصف الياقوت الأصفر حيث ذكر ما نصه: "فمنه الخلوقي والزيتي والفستقي، وأبو قلمون، يوجد فيه كل لون من ألوان الخلوقية والصفرة والخضرة والسماوية ترى فيه فهذه الألوان عند تحريكه فيتلون ضروبا كأبو براقي في تلون ريشه بحسب الظل والصفح ووضعها فيه"، ويعلق على معرفة الكندي أن هذه الألوان المختلفة أنها ليست نابعة من البلورة وإنما من معاملة خاصة بين البلورة والضوء فذكر ما نصه: "أنها تترأى فيه الحركات يدل أنها ليست فيه ذاتية إنما هي مخايل وقد يرى في مكاسر البلور وفي الجلد البلوري في الشمس هذه الألوان على أحسن ما يكون – كذلك يراها من ضيق فتح عينيه وأشرف عليها بشعرة حاجبه ووسطها بين عينيه وعين الشمس"، ومع كل ذلك نجد عالم المعادن الإنجليزي جورج سميث قد ذكر أن الجوهريين في العصور القديمة لم يسعوا إلى نحت الأحجار الكريمة واكتفوا بصقلها ولذلك ظلت ظاهرة لعب الألوان غير معلومة حتى النصف الثاني من القرن الخامس عشر، مؤكداً أن عملية نحت الوجوه للأحجار الكريمة لم تُعرَف إلا في هذا التوقيت!.
أبرزت الدراسة الجديدة لهذا الكتاب التى قدمها الدكتور طارق نازل جانباً مهماً بعيداً عن موضوع الكتاب العلمي في علم المعادن حيث أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن ادعاء الشيعة من أن البيروني شيعياً إنما أصله الطمع في الحصول على شرف نسبة "البيروني كأعظم عقلية عرفها التاريخ" إليهم وهو ما ليس من الحقيقة العلمية في شيء، ولإثبات ذلك فقد استعرض الكاتب كلام العلامة البيروني حيث قال: "وقد كان فضلاء الملوك يجمعون الأموال في بيوتها من المساجد ويجلبونها من اجل وجوهها - ثم يكنزونها بالتفرقة في أيدي حماة الحريم ثم الدافعين مغار العدو عن الحوزة إذ كانت أول فكرتهم أخر عملهم – وهم كالخلفاء الراشدين ومن تشبه بهم مقتديا مثل عمر بن عبد العزيز والكثير من المروانية والقليل من العباسية أذ كانوا يرون ما قلدوه عبأ ثقيلا قد حملوه ويحتسبونه محنة ابتلوا بها وكانوا يجتهدون في نقص أصرها ويتحرجون عن التردي في وزرها". ألا ترى أيها القارئ المنصف في هذا الكلام أن البيروني يمدح الخلفاء الراشدين والمهتدين بهديهم أمثال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضى الله عنهم أجمعين بالزهد بشكل واضح بل العجيب أنه يمدح الأمويين بقلة الحرص على المال ويذم العباسيين بينما كان يعيش هو في عصر الدولة العباسية؟! ثم أورد أيضاً في أكثر من موضع من مواضع الكتاب كلاماً من الناحية الفقهية عن حكم استخدام أواني الذهب والفضة، واستشهد فيه بآراء أحد أئمة أهل السنة والجماعة الأربعة، وهو الإمام الشافعي رضى الله عنه ومنها قوله: "قال الشافعي في كتاب حرملة، لا يجوز استعمال أواني الياقوت والبلور لأن قيمتها قيمة الذهب والسرف فيها أكثر من السرف فيه – وقال في الأم، أن استعمالها مباح لأن المعنى خص الذهب والفضة بالمنع" وذكر الإمام الشافعي في موضع آخر مترضياً عليه حيث قال: "ولولا أن هذا كان أمراً مشتهراً لما صار من مسائل المطارحة حتى سُئِل الشافعي رضي الله عنه عنها فأجاب".
وانتهى الدكتور طارق نازل بما بدأ به هذا التقرير، وهو الأمر المتعلق بنظرية دارون التي لم تظهر إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبالتحديد سنة ١٨٥٩م؛ بعد نشر داروين كتابه أصل الأنواع، والتي افترض فيها التطور البيولوجي الانتقائي، وتبعه في ذلك مؤيدي نظرية الخلق واستعملوه للإشارة إلى أصل الحياة، وحتى أنهم طبقوه على مفاهيم التطور الكوني، وكلاهما لا شك أُثبت فشله وخطأه، وليس هذا محل اهتمامنا الآن وإنما ما يعنينا هنا نقطتين استنبطهما الأستاذ الدكتور طارق نازل من كلام البيروني حيث ذكر ما نصه: "وهذا بسبب ما سمعوه من الطبيعيين أن الياقوت الأحمر بالغ غاية كماله كما الذهب الإبريز في غاية اعتداله وظنوا أن الياقوت تردد في ألوانه وتدرج فيها إلى الحمرة ثم وقف لديها إذ ليس وراء الكمال شيء – وأن الذهب ايضا يتردد في أنواع الذائبات من عند أبويه الزئبق والكبريت واجتاز على الرصاص والنحاس والأسرب والفضة إلى أن يستوفى الصبغ والرزانة فوقف فلا يتجاوز رتبة الكمال – لذلك زعموا يزداد في التراب وزنا ولا يستحيل فيه ولم يعن الطبيعيون فيها إلا ما يعنون في الإنسان أنه بالغ أقصى رتبة الكمال بالإضافة إلى ما دونه من الحيوان ويذهبون فيه إلى سنخه وجوهره لا أنه صعد إلى الإنسانية من أنواعها حتى ارتقى من الكلبية إلى الدبية ثم إلى القردية إلى أن يأنس".
النقطة الأولى أن ما ذكره البيروني في آخر الفقرة يثبت أن دارون ونظريته للنشوء والارتقاء القول بها ليس بجديد وإنما تم طرحه قبل عشرة قرون من نشر كتابه، والنقطة الثانية والأهم أن هذا الافتراض قد رُفِض وأصبحت مسألة كمال الخلقة الإنسانية أمراً مسلماً به، بل وتم تطبيق ذلك على جميع المخلوقات، ومنها الجواهر، فالياقوت لم يكن كوارتز ثم تطور إلى ياقوت، والذهب لم يكن معدن خسيس ثم ارتقى إلى معدن نفيس.
إن البعد الإيماني هو الذي عصم علماء القرن العاشر الميلادي من إضاعة الوقت في نظريات فاسدة، وغيابه هو الذي أضل علماء القرن التاسع عشر بالانخراط فيها، فإيمان البيروني – وهو عالم الطبيعة والجيولوجيا المدقق –العميق بوجود قوانين طبيعية ثابتة، قد بثها الله تعالى في الكون وجعل الخليقة تسير بمقتضاها، وهي مُسَخَرَة في ذلك دائما لا تتخلف، يتضح في قوله في أحد مؤلفاته بأن: "العلل التي ليست بأجسام كالأشياء التي يسميها الفلاسفة "الطبيعة" و"العقل" و"العلة الأولى" لا تنقل النظام إلى اللانظام، بل شأنها أن تنقل اللانظام إلى النظام، أو تُمسِك النظام على النظام".
وختم الأستاذ الدكتور طارق نازل دراسته بكلمة ختامية للمستشرق الروسي كراتشكوفسكي: "لا نملك إزاء هذا إلا الانحناء في خشوع واحترام أمام النتائج العلمية الباهرة التي توصل إليها البيروني، والتراث العلمي الحافل الذي أنتجه في ظروف الزمان الذي عاش فيه"، وهذه كلماتي لك أيضاً أيها العالم الجليل.
وتصدر سلسلة التراث الحضاري عن الهيئة المصرية العامة للكتاب برئاسة تحرير الكاتبة سلوى بكر، فيما يشغل الدكتور أسامة السعدوني جميل مدير تحريرها، وتهتم بنشر عيون التراث الحضاري على مدى الأزمان.
أ.د طارق نازل
أستاذ ترميم الأحجار الأثرية والعميد السابق لمعهد الدراسات العليا للبردي والنقوش بجامعة عين شمس
كتاب الجماهر في علم الجواهر