لأنه حادث متغلغل وعنكبوتي، ومعقد للغاية، ربما تكشف الأيام والتحقيقات عن حقائق مذهلة، تسببت في اغتيال رئيس الحكومة الياباني الأسبق، آبي شينزو.
ظاهريًا، يوجه إصبع الاتهام لما يمكن وصفه بالاسترخاء والترهل الأمني، كسبب مباشر لارتكاب جريمة الاغتيال النكراء، غير أن الأمر لا يخلو من "اللهو الخفي"، المتمثل في العلاقة الغامضة، ومظاهر الابتزاز، والمصالح المتبادلة بين الوجهاء السياسيين، والمؤسسات الدينية اليابانية، التي تهدف إلى الربح، تحت غطاء الدين.
فالمؤسسات الدينية اليابانية تستغل مصداقية وجهاء السياسة، "لـ استغفال" أكبر عدد ممكن من ضعاف النفوس، والمصابين بما يمكن وصفه بالفراغ المعنوي، في المقابل يحتاج الساسة إلى أصوات هؤلاء، المغيبة عقولهم، في الانتخابات العامة.
اللهو الخفي، والمصالح المتبادلة بين وجهاء السياسة والمؤسسات الدينية اليابانية، يفسحان المجال - بكل أسف - لصفقات مستترة ومريبة، تسمح للقائمين على المؤسسات الدينية بتوجيه أتباعهم في الانتخابات العامة، مقابل غض طرف الساسة عن تصرفاتهم، التي قد تحمل كثيرًا من شبهات النصب والاحتيال في جمع الأموال، وعدم دفع الضرائب، بل، وربما تمويل حملات انتخابية، بأموال، قد تكون سببًا في هلاك وإفلاس أصحابها المضللين، تحت بند بيع الوهم والجنة الموعودة!!
هذا هو - بالضبط - ما يمكن استنتاجه سريعًا، من قراءة المشهد المعقد في الساحة الضبابية اليابانية الآن، عقب حادث اغتيال آبي، فربما دفعت الهواجس مرتكب الجريمة لتنفيذ فعلته النكراء، ظنًا منه أن آبي كان متعاطفًا مع إحدى المؤسسات الدينية التي نهبت أموال والدته وهدمت أسرته!!
أنتقل من هذا الاستنتاج السريع لما تشهده اليابان من "كابوس" مظلم، لعرض المزيد من تداعيات حادث الاغتيال المروع للزعيم الياباني الراحل، آبي شينزو.
أبدأ بتطور ملفت، حيث صدر كتاب أبيض دفاعي ياباني جديد، 2022، يوضح - بشكل علني - "تنقيح وثائق الدفاع اليابانية - ذات الصلة - بحلول نهاية العام الحالي، وزيادة ميزانيتها الدفاعية، وتطوير قدرات الضربة المضادة.
هذا المحتوى قد يتسبب في إثارة قلق دول مجاورة، وتحديدًا، الصين والكوريتين وروسيا، بحجة ما تدعيه هذه الدول، وقد عانت من الحقبة الاستعمارية، بأن اليابان تنحرف أكثر - الآن - عن مسار الإستراتيجية السلمية الموجهة للدفاع بشكل حصري.
على الصعيد الداخلي، وبعد قيام الحكومة اليابانية بتحديد موعد 27 سبتمبر المقبل لإقامة جنازة دولة للزعيم الراحل، آبي شينزو، بقاعة "نيبون بودوكان" المهيبة بالعاصمة طوكيو، احتشد نحو 400 شخص، من بينهم أعضاء في 11 منظمة أهلية، رافضين استخدام الفعالية لأغراض سياسية، وأنها تفتقر لأساس قانوني، وستجبر الناس على الحداد، وستوظف للتغطية على سلبيات آبي كرئيس للحكومة.
بعكس هؤلاء المعترضين، الذين تسمح لهم مساحة حرية الرأي والتعبير بالاحتشاد أمام مقر رئيس مجلس الوزراء في قلب طوكيو، نشر موقع "اليابان بالعربي" تقريرًا جاء فيه أن آبي - بعيون من عرفوه عن قرب - شخصية محبة للسلام، حسن الطباع، بسيط في تعاملاته الاجتماعية، ويبدي اهتمامًا بذوي الاحتياجات الخاصة.
وبعنوان: آبي شينزو قائد محنك أثرى الحياة السياسية، وترك بصمة لا تنسى في تاريخ اليابان، نشر الموقع - نفسه - مقالًا للصحفي المخضرم، كوجا كو، جاء فيه أن البيئة الأمنية المتدهورة، وانحسار القوة الوطنية، وأزمة هوية اليابان بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ساعدت آبي على تأسيس "إمبراطوريته السياسية".
وفقًا للكاتب الياباني، كان آبي شينزو زعيمًا مثيرًا للجدل، وكان مثل "مغناطيس قوي"، يجذب الحلفاء، ويصد الأعداء، معًا، مما جعله حالة استثنائية مقارنة بكل رؤساء حكومات اليابان، بقدرته على جذب الدعم القوي والمعارضة في آن واحد.
يقول الكاتب: "كان آبي قوة ساحقة داخل البرلمان، وواجه انتقادات كثيرة بسبب ازدرائه للمعارضة المفككة، باعتباره سلوكًا رافضًا لا يتسم بالنضج، حتى داخل حزبه الليبرالي الديمقراطي، التزم المعتدلون بالهدوء تجاه خطابه الاستفزازي".
ومع ذلك، كان هذا متسقًا مع موقف آبي العنيف تجاه اليسار، وكيف غضب حين رأى لافتة مكتوبًا عليها "ارحل يا آبي" خلال انتخابات محافظة طوكيو في يوليو عام 2017، مما دفعه إلى أن يقسم بأنه لن يسمح لمثل هؤلاء الأشخاص بهزيمته.
في شهر فبراير الماضي، وجه الكاتب، كوجا كو، سؤالا للزعيم الراحل، عن الهدف وراء هجماته المستمرة على أحزاب المعارضة، أجاب آبي قائلا: "كنت أقود الحزب الحاكم قبل المعركة الانتخابية، وكما تعلم، فالانتخابات تتمحور حول إجراء مقارنات لتحديد الأفضل، في أي معركة، ينبغي على القائد أن يتبارز مع خصومه، البعض يعتقد أن هذا عمل "قذر" يجب تركه لشخص آخر، ولكن بما أنه لم يكن هناك أي شخص آخر يصلح لهذه المهمة، فقد تقدمت - بنفسي - إلى الصفوف الأمامية، مما أثار بعض الاستياء، وقتها، من جانب رئيس مجلس الوزراء، كيشيدا فوميئو".
يضيف الكاتب: "من الواضح أن استياء آبي من كيشيدا، امتد إلى أسلوب الأخير في الحكم بشكل كامل، كان آبي يعرض - باستمرار - آراءه على كيشيدا في شتى المواضيع، وبرغم أن كلاهما أصبحا مشرّعين في عام 1993، إلا أن آبي كان يرى نفسه - دائمًا - في مكانة أعلى من كيشيدا، ويتمتع بحنكة سياسية تفوقه بكثير.
يكشف الصحفي المخضرم سرًا: "إذا لم يتم إطلاق النار على آبي واغتياله، لكانت إحدى المهام الرئيسية، التي سيأخذها كيشيدا على عاتقه، بعد انتخابات مجلس الشيوخ، هي ردع محاولاته للتدخل، ويتعلق هذا بالتوترات الطويلة بين فصيل كوتشيكاي، أو فصيل الحزب الليبرالي الديمقراطي، بزعامة كيشيدا، وفصيل سيواكاي، أكبر فصائل الحزب الليبرالي الديمقراطي، برئاسة آبي، حتى وفاته".
يختتم الكاتب تحليله موضحًا أن الفكر اليميني متأصل في عائلة آبي، ولعل السبب في ذلك يعود لتأثير والدته، حيث كان والده غائبًا معظم الوقت، وكانت الأم، كيشي يوكو، تتحدث - بإسهاب - عن البراعة السياسية لوالدها، جد آبي، رئيس الحكومة الأسبق، كيشي نوبوسوكي، وتبلغ الأم يوكو - الآن - 94 عامًا، وكانت تظهر بانتظام حتى بضع سنوات مضت في اجتماع يٌعقد في شهر مايو لإحياء ذكرى وفاة زوجها.
بقي أن أشير إلى أن القطاع الاقتصادي الياباني يراقب - عن كثب في الوقت الحالي - أي السياسات، التي سيجري اتباعها خلال الأيام أو الأسابيع القليلة المقبلة، في ضوء تبعات اغتيال آبي، وطي صفحة "أبينوميكس" الهادفة لتحقيق النمو، والفوز الساحق، الذي أحرزه الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم، في الانتخابات الأخيرة.
[email protected]