مما لا جدال فيه أن الدولة المصرية قد نجحت بصورة ملحوظة في إثبات قدرتها على تعزيز جبهاتها الخارجية من خلال توطيد علاقاتها وإدارتها بنجاح كبير إقليميًا ودوليًا، فعبر ثماني سنوات رسخ الرئيس السيسي سياسة خارجية بارزة ومميزة قائمة على وجوب احترام الدول والشعوب وتاريخها، مع تأكيد التوجه للسلام والتعاون المشترك لإعلاء القانون وتحقيق مصالح الشعوب.
الأمر الذي انعكس بصورة كبيرة على الاستمرار في التحرك نحو البناء والتنمية وتقوية أواصر الداخل وصولا إلى صورة مكتملة للدولة الحديثة التي تستطيع المنافسة وارتياد الآفاق المختلفة، حيث إن السياسة الخارجية المصرية تحفل بنشاط كبير وجهد دؤوب غير متوانٍ يرتكز إلى الحفاظ على تحقيق التوازن والتنوع في العلاقات مع مختلف الدول في العالم كله، وتحقيق المصالح الوطنية في المجالات الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية وفي تحقيق متطلبات الأمن القومي المصري، وتعزيز القدرات المصرية في كل المجالات وتوفير الدعم الخارجي والتعاون الدولي مع جهود التنمية الشاملة.
من هنا تأتي زيارة الرئيس السيسي الأخيرة إلى فرنسا لتكون بمثابة تتويج لمسيرة حافلة في العلاقات بين البلدين، وهي علاقات قائمة على روابط تاريخية ممتدة دعائمها الصداقة والثقة المتبادلة، وهذه ليست الزيارة الأولى خلال السنوات السابقة، ولن تكون الأخيرة بالطبع، إذ تعددت الزيارات الثنائية والمتبادلة منذ العام 2014، وفي كل مرة تكون للزيارة ثقل مغاير ونتائج إيجابية جديدة، وقد جاءت هذه الزيارة تحت شعار العلاقات الإستراتيجية المميزة والشراكة القوية التي تربط البلدين، فهناك تعاون مصري فرنسي متنامٍ سواء عسكريًا وبحريًا، فضلا عن التعاون في مجالات التنمية والمُناخ، ولأن الأحداث الجارية والمتجددة تفرض وجودها على الساحة الدولية، وتؤثر على خارطة السياسات في العالم سياسيًا واقتصاديًا.
فقد شهد لقاء الرئيسين المصري والفرنسي مناقشة تأثيرات الحرب الأوكرانية على مجالي الطاقة والغذاء، في ظل تمتع فرنسا بميزة أنها واحدة من أكبر الدول المنتجة للقمح، كما لم تغب عن أولويات الرئيس في مناقشاته مع الرئيس ماكرون وضع الأمن الإقليمي، خصوصًا الأزمة الليبية والسورية والسودانية والإرهاب في غرب إفريقيا، وتأثير تلك الأزمات بالمنطقة، إضافة إلى القضية الرئيسية في الشرق وهي مستجدات القضية الفلسطينية وسبل إحياء عملية السلام، ليؤكد الرئيس موقف مصر الثابت بضرورة التوصل إلى حل عادل وشامل يضمن حقوق الشعب الفلسطيني وإقامة دولته المستقلة وفق المرجعيات الدولية، ليعرب الرئيس الفرنسي بدوره عن تقدير بلاده البالغ تجاه الجهود المصرية في هذا السياق، وكذا جهود إعادة إعمار غزة، مبديًا تطلعه لاستمرار التشاور، وهي إشارة دالة ولافتة إلى انتباه الغرب إلى تمسك مصر والدولة العربية بضرورة مساندة القضية الفلسطينية وحق شعب فلسطين في دولة مستقلة وعيش بسلام، مما يدل على الثقل السياسي المصري في محيطها الإقليمي، وكذا تأثيرها الكبير في القضايا المختلفة عالميًا اتساقًا مع تكوينها الحضاري وتاريخها الممتد كدولة محورية في العالم كله.
ومن ثم كان منطقيًا أن يتناول لقاء الرئيسين الوضع الاقتصادي الدولي الصعب والتأثيرات السلبية غير المسبوقة بالأسواق العالمية بسبب الأزمة الأوكرانية، وضرورة التحلي بالمسئولية لإيجاد حلول وآليات عملية تخفف من تداعيات الأزمة على الدول الأكثر تضررًا، ليؤكد الرئيس بحكمة وصوت العقل رؤية مصر بضرورة إبقاء الباب مفتوحًا أمام الحوار والحلول الدبلوماسية من قبل جميع الأطراف المعنية، والأمر ذاته فيما يتعلق بتحمل المسئولية من الجميع تجاه قضية المُناخ وتأثيراته السلبية على الدول، وكيف أن مصر تستعد بكل جد ودأب لاستضافة القمة العالمية للمناخ COP27 بشرم الشيخ في نوفمبر القادم، ومساعي تنسيق الجهود الدولية لتحقيق تقدم ملموس حول هذه القضية الخطيرة وصولًا إلى الخروج بنتائج إيجابية من القمة.
ولعلنا نستنتج طول الوقت حرص الغرب والعالم الخارجي على توطيد علاقته بمصر التي تعد مفتاح الشرق وحضارته وحاضره بامتلاكها قوة ديمجرافية كبيرة وطاقات أكاديمية مهمة ومشاريع تنموية لافتة للغرب وأوروبا، ومنها فرنسا التي ترى أنه من الأولى الاستثمار بمصر في ظل تخوفها من الأزمة الاقتصادية الناتجة عن الحرب، وهو ما يأتي استكمالًا لمسيرة طويلة من العلاقات بين القاهرة وباريس، قائمة على أسس تاريخية وحضارية وثقافية، منذ البعثة العلمية التي رافقت الحملة الفرنسية على مصر، التي أسهمت في فك طلاسم حجر رشيد، والتعرف على حضارة المصريين القدماء وصولًا للعصر الحديث الذي شهد تعاونًا كبيرًا على جميع المستويات ومختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية وغيرها.