Close ad

إكراه الدول.. هل يجوز شرعًا؟

24-7-2022 | 16:07
الأهرام المسائي نقلاً عن

  • لقد كان من تمام رحمه الله تعالى بعباده أن رفع عنهم الحرج حال الضرورة، وعفا عنهم فيما استكرهوا عليه، لقول النبي "صلى الله عليه وسلم": "إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ولذلك أرست شريعة الإسلام قاعدة مفادها "الضرورات تبيح المحظورات" لتجعل الإكراه والضرورة عذرًا مقبولا يمنع من لحوق الذم والعقاب بصاحبه إذا اضطر إلي إتيان محرم.

  • وإذا كانت الشريعة قد اعتبرت حالة الإكراه في حق الأفراد، فاعتبارها لإكراه الدول من باب أولي، فالفرد مهما بلغت درجة الإكراه الواقعة عليه فهو لا يحمل عبء غيره، أما الدول فتحمل علي عاتقها مصائر ملايين البشر، وإن جاز للفرد، أن يأخذ بالعزيمة، ويحتسب الأجر فيما يلقاه من ضرر، فلا يستساغ مثل هذا في حق الدول، إذ يسع الفرد ما لا يسع الجماعة، ويسع الفرد والجماعة ما لا يسع الدولة.

  • إن البعض لا يتصور وقوع حالة الإكراه في حق الدول، ويظن ذلك قاصرًا علي الأفراد فحسب، وصحيح أن كتب الفقه والأصول أفاضت الحديث عن إكراه الفرد وشروطه وصوره وأحكامه، ولم تتحدث عن إكراه الدول مع أن إكراه الدول متصور في الشرع والواقع من باب أولي، فإذا كان الإسلام قد أباح للفرد المضطر أكل الميتة وشرب الخمر – رغم حرمتهما – دفعًا لما هو أعظم مفسدة من هلاك النفس والبدن، فكيف بالدولة إذا هددت بالقصف الجوي العنيف بأفتك أنواع القنابل الضخمة، وهددت بتدمير بنيتها التحتية المدنية والعسكرية، وبقتل الآلاف من أبناء شعبها وهي لا تستطيع دفعًا لكل ذلك، ألا يعد هذا إكراهًا أعظم بمراحل من إكراه الأفراد؟!.

  • إن الدول تكره تمامًا كما يكره الأفراد، وتتعرض أحيانًا لحالات من الضرورة أشد وأقسى بكثير من تلك التي يتعرض لها الفرد، وتتعدد صور الإكراه الواقع علي الدول في عصرنا هذا، كما تتدرج تلك الصور من حيث قسوتها وعنفها، فهناك الإكراه السياسي والاقتصادي والعسكري.

  • وحقائق التاريخ قديمًا وحديثًا هي أبلغ شاهد علي حدوث الإكراه في حق الدول فها هي دولة الإسلام الأولى على أرض المدينة تتعرض لصورة شرسة من صور الإكراه الملجئ، وذلك في غزوة الأحزاب، ويصورها القرآن أبلغ تصوير في قوله تعالي "وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا".

  • ماذا يفعل النبي "صلى الله عليه وسلم" بحكمته المعهودة وبصيرته النافذة لحل تلك الأزمة ولمحاولة كسر هذا الطوق المضروب حول المدينة، لقد هم النبي "صلى الله عليه وسلم" أن يدفع لغطفان ثلث ثمار المدينة كل عام علي أن تنسحب من هذا التحالف"، ليس لعام واحد فقط بل كل عام فيما يشبه الجزية المفروضة، وليس مقابل رد جميع الأحزاب، بل فقط لمحاولة تحييد جزء منهم، وخلخلة هذا التجمع المعادي لدولة الإسلام، إنها ملامح واضحة لا تخطئها العين لحالة الإكراه الملجيء ضد دولة من الدول، وهكذا يعلمنا النبي "صلى الله عليه وسلم" درسًا بليغًا في فقه الموازنات وفي القياس الصحيح بين المصالح والمفاسد.

  • وفي العصر الحديث، قد تتعرض دولة من الدول لمثل ما تعرضت له دولة الإسلام من قبل، ولكن بصور أخرى مستحدثة هي أشد تعقيدًا وخفاءً من ذي قبل.

  • وفي الأمس القريب، تعرضت دولة اليابان لحالة قاسية من حالات الإكراه الملجئ جعلتها تتجرع السم، وتقبل علي مضض أمورًا ما كانت لتقبل بها لولا ذلك الإكراه ففي الحرب العالمية الثانية قصفت مدن اليابان بالقنابل الذرية، وقتل في ظرف ساعات معدودة ما يزيد على أربعين ألف ياباني غير الجرحى والمعاقين، وهو ما حدا بالإمبراطور الياباني أن يوقع رغم أنفه وثيقة الاستسلام دون قيد أو شرط، وتعهدت اليابان بالالتزام بكل ما تضمنته الوثيقة من بنود مجحفة يعرفها الجميع ولا مجال لبسطها.

  • إن الدول حين تتعرض لحالة الإكراه، وتئن تحت وطأة الضرورة تتغير حساباتها ويباح لها حينئذ مالا يباح في وقت آخر، وليس من المنطقي ولا من المعقول أن يحكم علي تصرفات دولة تمر بحالة إكراه، كما يحكم علي دولة في ظروفها الطبيعية، إن حالات الضرورة التي تمر بها الدول أحيانًا تضعها أمام خيارات أحلاها مر، وليس فيها خيار قادر علي تحقيق المصالح الخالصة، فحينئذ لا يكون أمامها سوى أن توازن بين المصالح والمفاسد، وتقيس المضار والمنافع، فتسعي لتحقيق أعلي المصلحتين بتفويت أقلها، ودفع أكبر المفسدتين بارتكاب أخفهما.

  • وفي مثل تلك الحالة قد تضطر الدولة للقيام بمنكر أو إثم ظاهر، وحينئذ يلتبس الأمر على صاحب النظر القصير، والحكم العجول، فلا تقوى بصيرته علي النفاذ من خلال تلك المخالفات الظاهرة، والمنكرات الجزئية لكي تدرك ما يختفي وراءها من دفع ما هو أعظم ضررًا وأعم مفسدة، وشريعة الإسلام لا تفرق متماثلين، كما لا تجمع بين متناقضين.

  • وقد لخص القرآن الكريم ضوابط الضرورة في كلمات قليلة، وذلك في قوله تعالي "فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ".

  • إن إخفاء أحكام الضرورة والإكراه، والامتناع عن ذكرها كي لا تكون ذريعة لبعض ضعاف النفوس، وضعاف الدين للتحلل من أوامر الشرع إنما يضر بالشريعة في المقام الأول، ويجعلها في صورة العاجز عن إيجاد حل لمثل هذه المعضلات التي تجري علي أرض الواقع، بل قد تتهم الشريعة بالقصور، وعدم الواقعية.


كلمات البحث