Close ad

عودة الحرافيش (3-3) إعادة بناء المجتمع الثقافي

23-7-2022 | 09:51

عالم نجيب محفوظ الروائى زاخر بحكايات مصرية تراثية جسدت الشخصية المصرية البسيطة بكل ما فيها من مزايا وعيوب، غاصت رواياته في دروب القاهرة وأحيائها، وغصّت بنماذج اجتماعية شتّى، واستأثر نموذج حرافيش القاهرة بالنصيب الأوفر من الوصف والإضاءة والتركيز، لأنه يمثل تجليات الشخصية المصرية بكل تناقضاتها وتعقيداتها المتراكمة عبر التاريخ.

المجتمع المصري يتميز تاريخياً بأنه مجتمع هاضم لكل الثقافات، حتى الثقافات الاستعمارية التى قامت باحتلاله لعدة عقود، هضمتها الشخصية المصرية وأعادت إفرازها وإنتاجها فى شكل فنون وأدبيات متباينة منوعة الاتجاهات والمشارب.

المُلاحَظ اليوم أن المجتمع المصري يعيد اكتشاف وتدوير نفسه بدءاً من القاع، فالفنون الشعبية الآن هى الأكثر رواجاً وانتشاراً، واللغة الشبابية المرنة هى الأكثر تداولاً أو "تلاسناً"، والعامية فى الأدب والرواية هى الأشد قَبولاً والأكثر مبيعاً، ما يبدو فى أنظار البعض فوضَى وارتباكاً هو عَين الانتظام والترتيب، فالمجتمع يقوم بعملية هضم جديدة يلوكُ فيها كل ما هو جديد، ليطرد ما لا يستساغ ويُبقِى ما يحب.

ومن بين المهام التى يقوم بها المجتمع اليوم مهمة الإزاحة الذكية والنبذ الهادئ للمجتمع النخبوى، بدأ الأمر منذ نحو عقد من الزمان مع ازدياد الوعى وانخراط الناس فى الواقع والأحداث، بدأ أولاً بسلاح التجاهل والانصراف عن الاستماع للخطاب الثقافى المكرر، ثم أتت موجة الأدب العامى والفن الشعبوى كتعبير عن رفض العامة للأدب النخبوى، إنه إعلان صامت له مغزى وصدى وتأثير، مفاده أن المجتمع يبحث عن أدب جديد وفن مختلف وطرق أخرى للتعبير لا يملك المثقفون المحنطون القدامَى شيئاً من أدواتها وآلياتها.

حرافيش القاهرة هم اليوم بناة المجتمع الثقافى النخبوى، أذواقهم الفنية والأدبية هى التى تفرض كلمتها على الساحة الثقافية الفارغة من أى مضمون الخالية من أى رؤية أو مغزى أو هدف. 

هؤلاء الحرافيش هم الأقدر على إزاحة النخبة المثقفة ونبذها على الطريقة المصرية.
 
نكون أو لا نكون..تلك هى المعضلة

مخطئ مَن يتصور أنه البديل المناسب للنخبة، فالحل الأمثل لإزاحة النخبة هو هدم مبدأ النخبوية من الأساس؛ لأنه مبدأ عنصري يخلق فروقاً طبقية بين أفراد المجتمع الواحد فيحوّل مجتمع الصفوة إلى ملائكة وأنبياء وبشر فوقيون يعيشون فى بروجهم العاجية بعيداً عن العامة والغوغاء، فيتحوّل الجمهور بالتبعية إلى قطيع يُساق، مجتمع بلا نخبة هو مجتمع يعترف بالاختلاف والتنوع ويبغض التمايز والطبقية، واعتراف المثقفين أنهم لا يحتكرون الحقيقة ولا يملكون صولجان المعرفة ولا مفتاح الخلاص والنجاة هو بداية الطريق إلى خلق نخبة من صفوف الجماهير أنفسهم، حيث تصير النخبة والجمهور شيئاً واحداً لا تمايز فيه ولا اختلاف.

ثمّة أسس خمسة لبناء مجتمع ثقافى جديد سليم الرؤية والنزعة والاتجاه.. تلك الأسس هى:

1- المثقفون القُدامَى: عليهم أن يتحلوا بالشجاعة الأدبية من أجل الاعتراف بفشلهم الذريع فى إنتاج رؤية فكرية يبتلعها الجمهور وينقاد لها، ومن منطلق هذا الاعتراف يعيدون تقديم أنفسهم بإسهام جديد وثوب عقلى وفكرى مواكب للتغيرات الجذرية المجتمعية المعاصرة.

2- المثقفون الجدد: لديهم الحق فى ملء الساحة الثقافية لإزاحة النخبويين القُدامَى.. هذا حقهم، فالجيل القديم لا يريد أن يسلِّم الراية للجيل الجديد من المثقفين، وعلى الجيل الجديد أن ينتزع الراية انتزاعاً. ثم ينضم للجمهور وينطلق معه نحو بناء مجتمع ثقافى سليم الجسد والعقل.

3- المسئولون: لديهم الفرصة السانحة لتحقيق إرادة جمهور يئس من نخبته الثقافية الهشة ويتطلع لظهور وجوه جديدة وإنتاج أفكار متطورة مسايرة للعصر، المسئولون وحدهم قادرون على تحويل الفوضى الفكرية والمجتمعية إلى منظومة متكاملة فاعلة.

4- المفكرون والنقاد: من غير النخبة، لا بد لهم من الانخراط فى خلق حالة من النقاش الجاد حول تلك القضية الحيوية، والاستعداد للاشتباك الفكرى مع النخبة المثقفة التى لا بد أنها ستدافع عن مكتسباتها بكل قوة.

5- الجمهور: قادر دائماً على أن يكون رقماً ثقيلاً كبيراً فى معادلة الفاعلية والتأثير. ولا بد أن يختار الجمهور مَن يمثله ثقافياً فى مرحلة فارقة من تاريخ الأمة.
 
[email protected]

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
وسقطت المتاريس والحصون!

إنهم يعلمون كيف يحمون ما سرقوه من أراضٍ وحقول، فصنعوا جدراناً عازلة وارتقوا بالأسوار المكهربة، وظنوا أنهم بمأمن حتى جاء يوم السابع من أكتوبر فتغيرت قناعاتهم وانتهت للأبد