في اليابان، تتوافر درجة عالية من الأمن والأمان، لكل مواطنيها، وللغرباء، الذين يسكنون أرضها، هذا صحيح ومؤكد، بحكم الإقامة، والمعايشة لسنوات في بلاد الشمس المشرقة، ومقارنة بما يشعره المرء، في العديد من دول العالم الأخرى.
غير أن الشعور بالأمن والأمان لا يجب التعويل عليه بالمطلق، باعتباره "شيك على بياض"، يصل مداه إلى الأجهزة الأمنية اليابانية المعنية، ليصبح، هو نفسه، ثغرة، ترتكب باسمه جرائم عظمى، تتحول لفضائح مدوية، كجريمة اغتيال، آبي شينزو، سبقتها، فضيحة تهريب رجل الأعمال الشهير، كارلوس غصن، من مطار كانساي.
التعليقات التي تناقلتها وسائل الإعلام العالمية، عقب اغتيال آبي شينزو، كررت دهشتها واستغرابها لحدوث مثل تلك الجريمة الشنيعة، في بلاد تفرض قيودًا صارمة على شراء الأسلحة النارية، تصل لحد الخضوع لاختبارات الصحة العقلية، ورغم ذلك، لا يجري السماح إلا باقتناء بنادق الصيد، وأخرى تعمل بضغط الهواء.
وفقًا لوكالة الشرطة اليابانية، وقعت 10 جرائم إطلاق نار – فقط - في اليابان في عام 2021، وكان أعضاء عصابات الجريمة المنظمة هم الجناة في جميع هذه الجرائم، باستثناء اثنتين، ومنذ 5 سنوات، وتحديدًا بدءًا من عام 2017، كان هناك ما يقرب من 10 إلى 20 جريمة إطلاق نار كل عام، مع سقوط ما بين واحد إلى أربعة قتلى، وهو عدد منخفض إلى حد كبير مقارنة بالمعايير العالمية.
في العام الماضي، صادرت الشرطة اليابانية 295 قطعة سلاح، وكان هذا الرقم - عادة - ما بين 300 إلى 400 قطعة للأعوام الخمسة من عام 2017، وفي 2021، جرى - أيضًا - اعتقال 78 شخصًا، لانتهاكهم قانون السيوف والأسلحة النارية.
وسائل الإعلام اليابانية، أفصحت عن قائمة بأسماء سياسيين، وشخصيات عامة، تعرضت لاعتداءات، قبل وقوع جريمة اغتيال آبي بالرصاص الأسبوع الماضي.
في عام 1960، جرى طعن رئيس مجلس الوزراء، كيشي نوبوسوكي (جد آبي شينزو) في فخذه، وأصيب بجروح خطيرة، على يد ناشط يميني، أمام مقر الحكومة، وفي السنة نفسها، تم اغتيال زعيم الحزب الاشتراكي الياباني، أسانوما إنجيرو، بالسيف، خلال إلقائه خطابًا، على يد شاب يميني.
في عام 1963، مجموعة يمينية تضرم النيران في منزل وزير البناء، كونو إتشيرو، وفي عام 1964، إصابة السفير الأمريكي، إدوين رايشاور، بجروح بالغة، في هجوم بسكين، ارتكبه شاب ياباني خارج مقر السفارة، وفي عام 1975، رئيس مجلس الوزراء، ميكي تاكيو، يتعرض للكمات في وجهه، من قبل عضو بمجموعة يمينية، بينما كان ينتظر بدء تشييع جنازة رئيس الحكومة الأسبق، ساتو إيساكو.
في عام 1990، إصابة عمدة ناجاساكي، موتوشيما هيتوشي، بجروح خطيرة، بعد إطلاق النار عليه من عضو بجماعة يمينية، وفي السنة نفسها، تعرض المشرع بمجلس النواب، هامادا كويئتشي، لهجوم بقضيب معدني، من عضو بجماعة إجرامية منظمة، أيضًا، تعرض العضو بالمجلس نفسه، نيوا هيوسوكي، للطعن، بمحافظة ناجويا، وتوفي بعد 12 يومًا.
في عام 1992، تعرض رئيس الحزب الليبرالي الديمقراطي، كانيمارو شين، لإطلاق نار، في أثناء إلقاء خطاب، غير أنه لم يصب بأذى، وفي عام 1995، إصابة المفوض العام للشرطة الوطنية، كونيماتسو تاجاكي، برصاصة أمام منزله بطوكيو، وفي السنة نفسها، انفجار طرد بريدي مفخخ كان مخصصًا لمحافظ العاصمة، مما أدى لإصابة شخصين.
في عام 1996، إطلاق النار على عمدة بمحافظة جيفو بمنزله، وإصابته بجروح خطيرة، وفي عام 2002، تعرض النائب بمجلس النواب، إيشي كوكي، للطعن حتى الموت أمام منزله على يد عضو بجماعة يمينية، وفي عام 2006، حرق منزل كبير أمناء مجلس الوزراء الأسبق، كاتو كويئتشي، بمحافظة ياماجاتا. أخيرًا، وفي عام 2007، قتل عمدة ناجاساكي، إيتو إتشو برصاص في أثناء حملة لإعادة انتخابه.
هذه القائمة الطويلة العريضة من الإحصائيات، وأسماء السياسيين اليابانيين، الذين تعرضوا للاعتداءات، وقصدت سردها تفصيلا، لم تتسبب في قتل زعيم تاريخي، بحجم، وقيمة وقامة، آبي شينزو، الذي ثبت إخفاق الشرطة اليابانية في حمايته.
أيضًا، وسائل الإعلام اليابانية نوهت إلى أن جريمة اغتيال آبي تسببت في اهتزاز شعبية إدارة رئيس مجلس الوزراء، كيشيدا فوميئو، والمدهش أن ذلك لم يكن صحيحًا، حيث حقق الحزب الليبرالي الحاكم، فوزًا ساحقًا في انتخابات تكميلية.
نجح كيشيدا في استمالة مشاعر الحزن والغضب الشعبية، بالإعلان عن أن حكومته ستقيم تأبينًا مهيبًا للراحل آبي، على نفقة الدولة، لتصبح ثاني أكبر جنازة دولة تقام لرئيس مجلس وزراء ياباني سابق، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945.
في الوقت نفسه، قررت الحكومة اليابانية، تكريم آبي، بمنحه أعلى وسام في البلاد، الأقحوان، ليصبح رابع رئيس مجلس وزراء يحصل عليه بعد وفاته، وقد سبقه في بلوغ هذا التكريم كل من: يوشيدا شجيرو، ساتو إيساكو، ياسوهيرو ناكاسوني.
الملاحظة الأهم، التي بدت في تصريحات كيشيدا، التي هدفت لتهدئة مشاعر الغضب، عقب حادث الاغتيال، هو تعهده بالسير على خطى آبي، الرامية لتعزيز الدفاع ومراجعة المادة التاسعة في الدستور، بهدف رفع القيود المفروضة على قدرة اليابان للانخراط في أعمال حربية، منذ هزيمتها في الحرب العالمية الثانية.
بات في حكم المؤكد أن اليابان ستشهد توسعًا في ميزانية الدفاع، لتتماشى مع النهج الذي تتبعه الدول الأعضاء في حلف الناتو، ولتصبح النسبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بنسبة الـ 1% المقررة في السنة المالية 2022.
بعد اغتيال آبي ونتائج الانتخابات التكميلية الأخيرة، يرى المراقبون أن اليابان سوف تشهد -على المدى المنظور- نقطة تحول تاريخية، ليس - فقط - بحسم تعديل الدستور، من خلال حشد الدعم السياسي لحكومة كيشيدا، وقد فازت به، فعليًا، بل - أيضًا - باستمالة الدعم الشعبي في المناقشات القريبة، تمهيدًا للاستفتاء الوطني.
هذا التوجه النوعي في السياسة اليابانية، داخليًا ودفاعيًا وخارجيًا- قد يفتح باب نار جهنم عليها، من جانب دول الجوار، وتحديدًا، من جانب كوريا والصين وروسيا، التي اكتوت - جميعها - بالفترة الاستعمارية - سيئة السمعة - لليابان.
فهل يوفر هذا المناخ - العدائي الخارجي والحماسي الداخلي للتغيير - البيئة الخصبة لمزيد من العنف، ووقوع مزيد من الاغتيالات - لا قدر الله - في اليابان؟
[email protected]