قد يتبادر سؤال مُلحّ لدى المنتمين للثقافة وهم ليسوا من النخبة: مَن يمتلك كشف تعيين المثقفين النخبويين؟ وهل النخبوية هنا مصطلح أكاديمي أم بيروقراطي أم براجماتي؟ وهل يمكن للنخبة أن تعيِّن نفسها بنفسها وتكتسب صفة النخبوية قسرًا فتفرض نفسها على الواقع الثقافي فرضًا؟ وكيف يحدث هذا؟ وما السبيل لإجراء عملية "إحلال وتجديد" لهذه النخبة؟!!
إن شجرة الثقافة العربية العتيقة لم تعد كالسابق، اختنقت الشجرة الأم وكادت ثمارها تنعدم وسط شبكة معقدة شديدة الالتفاف والتشابك من نباتات متسلقة دخيلة، وانقسمت الصورة إلى جيل قديم يحن إلى زمن سابق لعبت فيه مصر دورًا رياديًا في مجال الثقافة، وجيل يكاد يختنق ويأفل أمام جحافل المتسلقين وأشاوس المنتفعين الراغبين في هدم كل ما هو جميل؛ ليبقوا هم وما يقدمونه من قبح وخواء، والخطورة تكمن لا في كونهم يمثلون صورة خاطئة ومغلوطة عن الثقافة المصرية، مجرد واجهة زائفة لحقيقة تستحي أن تعلن عن نفسها، لكن مكمن الخطورة الحقيقية أن النخبة الثقافية المهيمنة على الساحة الفكرية بإمكانها التحكم في قنوات التدفق الفكري؛ بحيث تغلق جميع المنافذ التي تهدد وجودها.
ما يعني أن المنافسة غائبة بالضرورة، لأن الغث هو الذي يسود فوق ما هو أشد ضحالة، إنها منافسة بين أشباه المثقفين وأدعياء الفكر، حيث لا يبقَى في الواجهة إلا ما يؤكد وجودهم وأحقيتهم في هذا الوجود، وأنهم البديل الوحيد للفكر والثقافة؛ والسبب أنهم حجبوا أي بديل حقيقي ليبقوا هم.
غير أن الواقع الثقافي المفكك المتداعِي يشي بأن الأرض باتت قابلة لانغراس بذور جديدة جيدة وخصبة عساها بشيء من الإصرار والجهد المخلص أن تنمو وتثمر كأشجارٍ سامقة عالية القمة لا تعبأ بكمأة اللبلاب المتسلق المتهالك.
مناورات النخب
العقبة الكبرى التي واجهت محاولات تخليق نخبة ثقافية بديلة هي أن شيوخها ورموزها من أساطين التفلسف وكهنة الفكر امتلكوا أدوات الالتفاف وأسلحة المناورة ضد أي محاولة لزحزحتهم عن الساحة.
فبينهم مَن تمرَّس على الجدليات النضالية الفلسفية التي تبدأ من حيث تنتهى! باستطاعته أن يثبت الشيء وعكسه بسهولة ويسر؛ ليثبت وجهة نظره ويؤكد خطأ الآخرين، ولديه من مفردات القاموس الفلسفي المغرق في التعقيد ما يجعله قادرًا على الدوران بالأفكار في دوائر مفرغة تنهك مَن يقع في شرَك الجدل معه!
صنف آخر من النخبة يبدو كالدب الشرس المدافع عن حماه والمتحفز ضد أي عدو يهدد منطقة نفوذه.. وله في ذلك المنحَى أسلحة وأنياب ومخالب، مبدؤه العام الإقصاء درءًا للمتاعب وإيثارًا للسلامة، لا يخاطر بالدخول في أي منافسة من شأنها أن تكشف ضعف منطقه وزيف موهبته وضحالة ذاكرته المعرفية، يروج لسلعته الثقافية مهما كانت كاسدة بكل وسيلة، ويذود عن مكتسباته ومكانته بكل ما يملكه من قوة عقلية وبدنية. مثل هذا الصنف لا يمكنه السماح بوجود منافسين أو مناهضين لمشروعه الثقافي المزعوم، ولا يمكن مناقشته في إمكانية وجود تنوع في الحقل الثقافي لإحداث التوازن، مثل هذا الصنف هو الأسوأ والأكثر انتشارًا والأشد مقاومة لأي محاولة لتغيير بنية الهيكل الثقافي.
إن أسوأ خصال النخبة المثقفة أنها نخبة نرجسية متعالية تنظر للعامة والدهماء نظرة احتقار رغم ادعاء الدفاع عن الحريات والحقوق والمبادئ العليا، فهم الطليعة المختارة المصطفاة، وهم صفوة الصفوة وخاصة الخاصة، يرون أنفسهم أنبياء هذا العصر المبشِّرين بالعدل والقيم والحرية، العارفين بأسرار الحقيقة ومجاهلها، المدركين لمصالح الجماهير الكادحة أكثر من الجماهير أنفسهم! فهم الأعلم والأقدر والأوعَى والأسبق، إنها كذبة كبرى وفرية عظمى تنغمس فيها النخبة حتى الثمالة، يعيشونها فيصدقونها ويتلبسون بها!
لا تنتظر من المثقف النخبوي مناقشة موضوعية أو قدرة على تغيير ذاته ومراجعة نفسه وإعادة تدوير أفكاره الآسنة؛ لأنه مقتنع وموقن بأفضليته ونخبويته التي تجعل من مناقشته إياك انتقاصًا لمكانته!
[email protected]