Close ad

السطحية في التعامل مع المأساة!

9-7-2022 | 07:15

جاءت جريمة القتل أمام جامعة المنصورة، لتسقط ورقة التوت عن العوار الشديد الذي أصاب مجتمعنا، وبقدر ما أثارت مشاهدها من ألم وحزن، بقدر ما كانت ردود الفعل غريبة بعد أن حكم القضاء بالقصاص من القاتل، وإن يجمع الظاهرتين شيء واحد، ألا وهو التحول المخيف في سلوكيات المجتمع، بعد أن انشغل البعض أثناء تنفيذ الجريمة في الشارع على مرأى ومسمع من الجميع بتصوير الجريمة، من أجل "الترند" على مواقع التواصل الاجتماعي، دون محاولة لإنقاذ فتاة تتعرض للذبح في وضح النهار، وهو نفسه المجتمع الذي انقسم ما بين تعاطف شديد مع القاتل، وصل إلى حد التماس العذر له، بل وجمع التبرعات من أجل تكليف محامٍ يعرف دروب اللعبة لتبرئته في النقض، وما بين متعاطف مع الضحية التي فقدت حياتها كنتاج لما أصاب المجتمع من تفكك.
 
وتختلف المجتمعات من حيث بنائها وتاريخها وثقافتها، بل تختلف في تقديرها للخطأ والصواب، وبدلًا من أن يتم استعراض أسباب الجريمة، وكيف وصلنا إلى هذا الحال، تسابق الجميع في الشد والجذب، ليس لهدف إلا تحقيق مكاسب مادية ومعنوية، دون رحمة بأسرتين مكلومتين.
 
ليس هناك مجتمع سوي يتعاطف مع قاتل، نفذ جريمته البشعة بالصوت والصورة مع سبق الإصرار بداعي رفضها الارتباط به، ولكن ظهر من يبدي تعاطفه مطالبًا بقبول الدية والعفو عنه، وكذلك مطالبة محامين كبار بالدفاع عنه، وهو اتجاه مصدره العاطفة والحكم الانفعالي، الذي وجد الوسيلة السهلة لترويجه ونشره، وقد يكون هذا تعاطفًا مع أسرته والظروف الاجتماعية المحيطة به، وقد يكون هذا التعاطف مصدره النظرة الدونية للمرأة في المجتمع، والتي قد تجعل البعض يتعاطف مع المتحرش بها في الشارع، ويحملها المسئولية لسبب أو لآخر.
 
ويبقى التأكيد على أن التعاطف مع قاتل، والترويج له عبر مواقع التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام الهدف منه تحقيق أهداف شخصية، وهو تعاطف وهمي، قد يكون أيضًا منبعه اعتقاد خاطئ، أو تحقيق مصالح ضيقة، دون مراعاة لحق الضحية في القصاص العادل، وبدلًا من المطالبة بتطبيق القانون وحصول أسرة الفتاة على حقها، تحولت الجريمة البشعة إلى ساحة لتصفية الحسابات بين أصحاب المهنة الواحدة، وفي الوقت الذي ظهر فيه من يقبل الدفاع عن القاتل، بناء على مطالب من البعض، أعلنوا فتح باب التبرعات لتوفير المقابل المادي، ظهر آخر يعلن استعداده للدفاع عن القتيلة مجانًا، وهما في ذلك لا يسعيان إلا لتحقيق مكاسب خاصة، ووجد في المأساة فرصة للصيد في الماء العكر، وضرب أكثر من عصفور بحجر واحد.
 
ويمكن القول إن جريمة الشارع في المنصورة، كشفت السطحية التي تعامل بها المجتمع مع المأساة، ولم تظهر إلا الأصوات العاطفية الزاعقة، أو التي حاولت الاستفادة الشخصية لسبب، أو لآخر، فيما غاب الرأي الهادئ، الذي يترك أمر القضاء للقضاء، ويبحث أسباب إقدام شاب في مقتبل العمر على فعلته التي تحرمها وترفضها الشرائع السماوية، وعلى رأسها وسائل التواصل الاجتماعي التي فككت الأسرة، وأقامت جدرانًا من العزلة بين أفرادها، وأيضًا الأب الغائب بسبب عمله، والأم الغائبة بسبب انشغالها بأشياء أخرى عن أولادها، يضاف إلى ذلك الحالة الاجتماعية والاقتصادية، وغياب التربية السليمة، وابتعاد المدرسة عن أداء دورها الرئيسي في التنشئة والتربية، وما تفرضه وتعرضه الفنون المختلفة من قضايا سطحية وشاذة، وما تلعبه الدراما من دور في تزكية أنماط حياة غير واقعية، وما تقدمه من نماذج بعيدة كل البعد عن القدوة الصحيحة.
 
إننا أمام قضية في منتهى الخطورة، فجرتها جريمة قتل أثارت التعاطف والغضب، ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، في ظل السطحية التي نتعامل بها مع الموقف، والدخول إلى قضايا نقاشية فرعية تبتعد بنا عن الأزمة الحقيقية التي يمر بها مجتمعنا، وتجرنا بعيدًا عن دراسة الأسباب الحقيقة لهذه الجرائم الغريبة علينا، التي كانت بعيدة كل البعد عنا.
 
إن كثيرين لا يشعرون بحجم الخسائر التي تحدثها جريمة قتل بهذه الكيفية المرعبة، ويبحثون تحت ركام هذه المأساة عن مكاسب زائفة مؤقتة، دون وازع من ضمير، أو رادع من مبادئ وقيم تراعي صالح هذا المجتمع الذي يدفع الثمن غاليًا، وستكون الفاتورة أكثر فداحة، لو لم نتدارك هذا سريعًا، وننحي المصالح الخاصة جانبًا حفظًا لأجيال لا ذنب لها.
 
عبء كبير يقع على عاتق الأسرة المصرية وعلى مؤسسات وأجهزة الدولة، وخاصة وزارات التعليم والشباب والثقافة وغيرها، لإيجاد بدائل عملية وجذابة أمام الشباب، بدلا من وقوعهم فريسة للفضاء الإلكتروني، وتضييع معظم وقتهم أمام الأجهزة الإلكترونية الحديثة، حتى تحولوا إلى كائنات أخرى يصعب التعامل معها، ناهيك عن انشغال الأسر بالتفوق الدراسي لأبنائها، بعيدًا عن متابعة سلامتهم النفسية وبنيانهم الاجتماعي، فقد تجد شابًا متفوقًا دراسيًا، ولكنه لا يجيد التعامل مع المجتمع المحيط به، ويعيش في شبه عزلة حتى مع أسرته.  
 
[email protected]

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة