كلام قديم جديد..
حول عقم النخبة المثقفة عن أن "تلد" فكرًا جديدًا يواكب موجات التطور الهادرة التي تجتاح العالم من أدناه إلى أدناه، وعن حاجة تلك النخبة إلى أن " تئد" أفكارها القديمة وتعيد تقديم ذاتها بفكر مغاير مواكب لما هو قادم من تغيير، أو أن تفسح المجال لمن يستطيع!
منذ أواخر القرن العشرين، ومع تحولات السياسة العالمية في أعقاب حرب العراق والتهاب الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، وانحسار اليسار أمام عنفوان التيار الليبرالي الهادر، بدأت مناقشات جدلية بيزنطية تدور في دوائر وحلقات مفرغة من النقد والنقد المضاد حول ما يُدعَى "موت الأيديولوجيات" و"نهاية المثقف"، والسبب هو تداعِي دور المثقف وانهيار ثقة الجماهير في النخبة الفكرية التي تتقدم الصفوف دون أن تقدم شيئًا.. تبلورت تلك المناقشات والأفكار في عدة إصدارات مهمة كان أولها كتاب "صور المثقف" لإدوارد سعيد، وكتاب "أوهام النخبة" لمؤلفه "علي حرب" وكلاهما صدر في عام 1997، وأثار الكتاب الأخير ردودًا واسعة من طوائف المثقفين والنخبويين المدافعين عن مواقعهم كقادة للرأي والفكر، حتى بعد ثبوت خواء مشروعهم الفكري وانعدام قدرته على طرح حلول واقعية أو حتى نظرية مقنعة للناس.
اليوم تعود المناقشات بشكل تدريجي وعلى استحياء، لكنها أقوى وأشد وقعًا من سابقتها التي اقتصرت في السابق على منتديات الخاصة من المثقفين، بينما هي الآن تدور في عقول أصحاب القرار، بل وعلى ألسنة العامة!
فلماذا تعود تلك الفكرة للظهور الآن؟ وما ومآلاتها؟
انهيار الإيديولوجيات..
أثبتت التجربة أن النضال الفكري تجاه أباطرة الكربوقراط والرأسمالية الموجَّهة تحت غطاء صاروخي نووي نضال عبثي لا يفيد في قليل أو كثير، وأن قوة الفكر تفتقر إلى فكر القوة، والقوة هنا هي قوة المادة والإمكانية والمنتَج والثروة، لهذا نرَى كيف أن التنين الصيني لا يعتمد في مواجهة الإمبريالية الغربية والفكر المهيمن على الأسواق العالمية لدى الشركات الأمريكية العابرة للقارات سوى فكرة الطفرات الاقتصادية بمشاريع عملاقة كمشروع طريق الحرير الذي سيغير وجه التجارة والاقتصاد في العالم كله، والحرب التجارية التي شنها "ترامب وبايدن" ضد الصين ليست إلا إرهاصات ذعر مستقبلي من هذا المشروع التجاري العملاق!
السؤال الذي يعاود فرض نفسه بإلحاح: ما دور المثقف العربي في هذه المعمعة؟
دور المثقف باعتباره قارئًا متحققًا مدققًا لا للواقع وللفكر الحديث فقط، بل هو قارئ بالأساس للمستقبل ومتنبئ بالأخطار المحدقة بمجتمعه استنادًا لمعارفه الواسعة وقراءاته المتجددة، إنه يلعب دور أجهزة الاستشعار المناخية والجيولوجية، لكنها قراءة لجيولوجيا السياسة ومناخ الفكر الاجتماعي والاقتصادي والتنموي، مثل هذا الدور أين هو الآن في بيئتنا الثقافية العربية المنشغلة بالنظر خلفها أو تحت قدميها؟ أين المهتمون باستقراء الواقع انطلاقًا منه نحو الغد بدلًا من المهتمين بجيوبهم وأحوال ذويهم تحت شعار “أنا ومن بعدي الطوفان"؟!!
الانفصال الذي حدث بين الطليعة والجمهور لم يحدث من فراغ، ولا حدث فجأة بين يومٍ وليلة، بل هو تدهور تراكمي مرجعه أن الجمهور لم يعد يثق في رؤية النخبة، ولا فيما تقدمه من أفكار مستهلكة بالية أو سريالية مغرقة في الخيال والوهم، وفي خضم الواقع الاقتصادي الضاغط يكون من الطبيعي جدًا أن يتخلى الجمهور عن نخبته الطليعية، لأنها بادرت بالتخلي عنه وعن متطلباته وتطلعاته.
[email protected]