رسائل المصرى الفصيح لا تزال مصابيح على الدرب. حكمة جلجامش منارة فى قلب الرمال المتحركة. مغامرات امرئ القيس علامات محفورة فى قلب الصحراء. حكمة ابن خلدون تقودنا إلى اجتياز الأسوار المنيعة، وفى عصرنا الراهن نهتدى بأمير الشعر أحمد شوقى، ومحمد مهدى الجواهرى حامل البيان، ولو أحصينا علامات الطريق لثقلت موازين الأمم، والحضارات، وبعضهم لا تقترب أعمارها من عمر شيخ عربى فى الصحراء، أو بالكاد تقترب من عمر بيت بناه أحد الأسلاف الصالحين، فعمر بعض البيوت أقدم من عمر دول وشعوب وأمم.
هذه بعض أوتاد الأمة المستمرة، وارثة الحضارات المعتمدة إنسانيا، وارثة الأفكار والمعتقدات السماوية.
فى العصور الحديثة عمد أصحاب السطوة العالمية إلى طمر هذه الأوتاد تحت غبار كثيف، من التشكيك إلى التقليل من الأهمية، إلى طمس ما تبقى من مصابيح، لكن كل هذه المحاولات كان سبيلها إلى الهزيمة، وبقيت هذه الأمة قادرة على إنتاج نفسها على الأقل فى الجانب الثقافى والمعرفي.
لست ممن يستعيرون لسان الهزيمة، حتى فى قلب الهزيمة، وإذا كان الاعتراف بالهزيمة هو بداية الانتصار فلا مانع، ولكن أن نتبنى آراء ومواقف الذين يرغبون، فى أن نكون هكذا أو لا نكون فتلك مسألة أخرى.
أما إذا تذرع أحد، بأننا لم ننتج فى القرون الخمسة الماضية شيئا يذكر فى المعرفة والثقافة والحداثة، فإننا نحيله إلى عصر الأنوار الحقيقى عربيا، فلولا العرب عندما كانوا جسرا لترجمة الفلسفة اليونانية، ما كانت تلك الأمم ذات السطوة الحالية أمسكت بعصر الحداثة، واحتكرته لنفسها، معرفة، وتصنيعا، وثقافة، وسياسة، وصلت الأخيرة إلى تشريع نظام عالمى يقفون على رأسه، ويمنعون كل من يقترب، حتى لو دار فى أفلاكهم.
لا توجد مصادفة فى التاريخ، وإذا وجدت فإنها تصادفنا الآن، فالمسألة الأوكرانية وضعت حدا لتدفق السياسة العالمية فى اتجاه واحد، بمعنى أنها أوقفته عند نقطة محددة، ما قبل لا يشبه ما بعد، ومعها تغيرت رقعة الشطرنج لعقود أو حتى قرون قادمة.
المصادفة وقعت الآن فى المسألة الأوكرانية، ومن قبلها مسألة كورونا الغامضة، الأولى جعلت المنطقة العربية، أو الإقليم العربي، أو منطقة الشرق الأوسط، أيا ما كان الاسم، واحدة من الأوتاد فى النظام الدولى الجديد، أما الثانية، فكانت قد مهدت الأجواء لإمكانية العيش فى العزل، فإغلاق المطارات والطرق والموانئ، وتوقف حركة التجارة والسفر، أعطى إمكانية أن تتعايش عدة أقطاب فى انعزال عن بعضها البعض، ليتخلص النظام الدولى من عصر المركزية.
والعرب، منذ قرون طويلة، لم تصادفهم الضرورة الحضارية مثلما هى الآن، ولم تخدمهم دورة المناخ مثلما هى الآن، فالطاقة عنصر جوهرى فى بناء النظام الجديد، ولنتأمل ما يجرى فى أوروبا نتيجة شح الغاز الروسي، واحتمال تغييبه عن قارة تعتمد فى وجودها على المواد الخام من خارجها بالكامل، ففور حدوث المسألة الأوكرانية، وجدت أوروبا نفسها فى حالة لم تعايشها إلا فى القرون الوسطى، أما الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، بوصفها أعظم قوة على سطح الأرض، حسب مريديها، فضربها التضخم الاقتصادي ضربة قاصمة، ووجدت نفسها فى حالة لا تستطيع معها أن تكون القوة الوحيدة، وبرغم اجتماعات السبع الكبار، والتماسك الظاهري، فإن ذلك لا ينفى وجود أزمة بنيوية فى النظام المركزى العالمي، وبعض المريدين يتصورون أن الأزمة عارضة، لكنها ليست كذلك، وعلينا أن نتلقى رسائل المصادفة التاريخية، ونقرأها بعناية، فالدورة الحضارية تقترب، لو أننا قرأنا الرسائل بنفاذ بصيرة.