Close ad

طه حسين والمعري وجها لوجه بعد 1000عام .. ماذا فعل عميد الأدب العربي عند قبر «رهين المحبسين»؟ | صور

28-10-2023 | 15:17
طه حسين والمعري وجها لوجه بعد عام  ماذا فعل عميد الأدب العربي عند قبر ;رهين المحبسين;؟ | صورد. طه حسين يتصدر المحتفلين بألفية المعري
محمود الدسوقي

زار عميد الأدب العربي طه حسين، قبر صديقه الذي ارتبطت به روحه، أبو العلاء المعري في مسقط رأسه بسوريا، وأوضح أرشيف الصحف الذي تنشر "بوابة الأهرام" مقتطفات منه،  والصادر عام ١٩٤٤م، أن الزيارة كانت بمثابة اتصال روحي بين رفيقين فرق بينهما الزمان.

سُئل طه حسين على سؤال مفاده، ماذا شعر عندما وقف على قبر المعري؟، أجاب عميد الأدب العربي بأنه وجد الشعور الذي يُطلق العاطفة، ويقيد اللسان، ويصرفه عن كل شيء ، ويصرفه عن كل إنسان، إلا عن أبى العلاء، فلم أفكر إلا فيه، ولم أتحدث إلا إليه، حتى كان الامتزاج بينهما قويا، حتى كاد ينسى نفسه، مؤكدا ما أكثر الأدباء العرب الذين يستحقون التقدير، لكنه لا يعرف لأبى العلاء في الأدب العربي ثانيا .

ويوضح طه حسين، بأن للأدب السوري واللبناني في العصر الحديث طابع الإقبال العنيف على التجديد، إلا إن الأدب السوري طابع المحافظة على عمود الشعر، أي الطريقة العربية العتيقة، وفى كلا الأدبين السوري واللبناني جمال وروعة، مضيفا أنه يحب الاعتدال المصري في الأدب، مطالبا أن ينتفع الأدب المصري برصانة الأدب السوري، وجرأة الأدب العربي دون أن تكره مزاجها على مالا يطيق .


حوار عميد الأدب العربي د. طه حسين حول ألفية المعري

بدورها تقول د. كاميليا عبد الفتاح أستاذ الأدب والنقد في تصريحات لـ"بوابة الأهرام"، إن عميد الأدب العربي تصدى عبر خمس وأربعين سنة لمهمة نهضة  أدب المعري من النسيان والتجاهل وانحراف التلقّي، وذلك منذُ  تقدّم إلى الجامعة المصرية – عام 1915م - بطلب الحصول على درجة الدكتوراه بموجب دراسة عنوانُها  "تجديد ذكرى أبي العلاء" ، حتى أشرفَ – عام 1960م – حين كان وزيرا للمعارف بمصر -  على وضع حجر الأساس للمركز الثقافي الذي توسّطه  ضريحُ أبي العلاء  – في معرّة النعمان بسوريا – حاملا هديةً ثمينة لمكتبة المعري – التي أُقيمت في المركز -  تمثّلتْ  في  مجموعة كبيرة من الكتب والمخطوطات النفيسة  والخزائن الخشبية.

وأوضحت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح ، أنه بين التاريخين المُشار إليهما – 1915 / 1960 -  لم تنقطع  علاقة طه حسين بأبي العلاء المعري ، فقد ألّف الأولُ  كتابه "مع أبي العلاء في سجنه" – عام 1935م – ثم  ترأس  لجنة الاحتفال بألفية  المعري  - في العام 1944م - والتي ضمّت  نخبة من كبارِ محققي التراث العربي والإسلامي ، على رأسهم الأساتذة: عبد الرحيم محمود، إبراهيم الإبياري، عبد السلام هارون، مصطفى السقا، حامد عبد المجيد وغيرهم، مؤكدة أنه تشيرُ الشواهدُ السابقة إلى أن علاقة طه حسين بـ"رهين المحبسين" تجاوزت حدود العلاقة التقليدية بين الباحث ومادة بحثه – أو الدارس ومنجزه العلمي – إلى أفقٍ أعلى .

يُطلعنا الدكتور طه حسين على ملامحه وطبيعته في التمهيد الذي وضعه بين يدي كتابه "تجديد ذكرى أبي العلاء"، حيثُ يصفُ كواليس علاقته بأبي العلاء، وتفاصيل لقائه الأول به، فيُدهشنا  حين  يؤكدُ  أنّ علاقته بالمعري لم تكن علاقة جيدة  في مبتدئها، حيث كان للمنهج القديم في دراسة الأدب دور في عزوفه عن  دراسة أدبه حتى تعرّف إلى المنهج الجديد ، قائلا: "كرَّهَ المنهجُ الجديدُ إليَّ أبا العلاء ، وأزال المنهجُ الجديدُ من نفسي هذا الكره، ووقفني من بعض الشعراء المحدثين والمتقدّمين  موقف الرجل الحر، لا يستهويه حب ، ولا يصرفُه بغضُ".

وتضيف كاميليا عبد الفتاح، أن طه حسين، يعددُ  الأسباب التي أغرته بدراسة أدب المعري، بعد أن أغراه  المنهج الجديد به، يذكر منها: اختلاف الناس حول عقيدة أبي العلاء، الاختلاف حول اللزوميات، اهتمام المستشرقين بشعر المعري، وإقبالهم على  ترجمة جزء من "اللزوميات" و"رسالة الغفران" وبعض رسائله النثرية .

ويختتم طه حسين هذه الأسباب بعامل شخصي، هو اشتراكه مع المعري في محنة العمى، يقول عميد الأدب العربي:"ورأيتُ بيني وبين الرجل تشابهًا في هذه الآفة المحتومة، لحقتْ كلينا في أول صباه، فأثّرت في حياته أثرًا غير قليل".  

وتضيف الدكتورة كاميليا عبد الفتاح،  أن طه حسين قدّم الأسباب العلمية - التي حرّكتْ شغفه لدراسة أبي العلاء - على العامل الشخصي لهذه الدراسة، رغم قوة هذا العامل وعمق آثاره، فالتشابه بينه وبين المعري لم يقع  في إصابة كليهما  بفقد البصر فقط ، بل في توقيت  ابتلائهما  به - أول الصبا - وفي ما تركه من أثر غير قليل في نفس كليهما .

يُشير طه حسين إلى هذا العامل الشخصي مرة أخرى في سيرته الذاتية الفذة "الأيام" ، حين يقول:"ولم يذكر الفتى كم مرة قرأَ شعر أبي العلاء ، ونثره مع صديقه ذاك ، ولكنه عرف أنه قرأه مراتٍ كثيرة ، وتأثر به أعمق الأثر ، وآمن به أشدَّ الإيمان، واستيقن أنّ حياة أبي العلاء هي الحياة التي يجب عليه أن يحياها ما استطاع إليها سبيلا".

 إنَّ الكيفية التي درس بها طه حسين أبا العلاء تُطلعنا على سمة مشتركة بين شخصيتيهما، وهي القدرة على إخضاع العاطفة لعمل العقل ، ونظم التفكير والمنهج العلمي، فعلى الرغم من اعتراف طه حسين بالعامل الشخصي الذي دفعه لدراسة المعري إلا أنه أكد أن كتابه هذا – تجديد ذكرى أبي العلاء -  وهو أول كتاب يؤرخ للحركة الأدبية في مصر- وُضع "على قاعدةٍ معروفة وخطة مرسومة من القواعد والخطط التي يتخذها علماءُ أوربا أساسا لما يكتبون في تاريخ الآداب"، وقد تشدد في هذا الأمر حتى كادا الكتابُ يكون "نوعا من المنطق، أوهو بالفعل منطق تاريخي أدبي" ، "ليس فيه حكمٌ إلا وهو يستندُ إلى مصدر، ولا نتيجة إلا وهي تعتمد على مقدمة" .

 وهنا يلتقي طه حسين مع المعري في سمة مشتركة – شديدة الأهمية – هي  القدرة على  كبح الدافع الشخصي بالمنهج العلمي والرضوخ لسلطة  منطق ما، أو قانون ما.


حوار عميد الأدب العربي د. طه حسين حول ألفية المعري

وأكدت كاميليا عبدالفتاح، أن  لزومياتُ أبي العلاء شاهدًا على قدرته الفريدة على إخضاع  جموح الخيال لصرامة القوانين الفنية ، إلى حد الالتزام بما لا يلزم، كذلك كان كتابه "الفصول والغايات"، و ديوان الدرعيات الذي شهد على قدرة المعري على ترويض خياله الطلق، وعاطفته الجموح لسطوة القيود  الفنية.

وأوضحت كاميليا عبد الفتاح، أن هناك ما أغرى طه حسين بمزيد من صحبة المعري، وحرضه على المزيد من  التغلغل إلى أسرار حرفه، ومحاولة تفسير رموز عوالمه الفكرية والفنية، وهو اشتراكهما في ما أسميه "القلق العقلي"، رفض الاتباعية الفكرية، الشغف بإعادة النظر  في الثوابت، الإصرار على الظفر بيقين خاص مغاير ليقين العامة، الشغف بالعزلة العقلية، والولع بالاغتراب، خلاصا من سفه  الدهماء، وضجيج السُّوقة .

واجه المعري مجتمعه فردًا أعزلَ إلا من إرادته وكبريائه الفكري وإيمانه بعقله وفنه ، واقتحمته الخصومات، واتُّهم في دينه وعقله، وكابدَ الإقصاء والتهميش والعداوة وتلفيق التهم، وتأليب العامة عليه، وكان جزءا كبيرا من مكابداته ثمنا لكشفه عن الفساد الذي استشرى في جسد المجتمع، راقدا فوق أنفاس الفكر والفن والأدب.

وخاض طه حسين ما يشبه هذه المكابدة ، منذ طفولته، ومنذ تصدى لحراس الجمود في الفكر والفن على مدار رحلته التعليمية والعلمية، وصولا إلى مرحلة بحثه في انتحال الشعر الجاهلي، والتي أخذه فيها الجموح والشطط إلى حد التعدي على بعض الثوابت الدينية والتاريخية ، مستجيبا  لأحكام عقله. 

وفي كلمة له، يربط طه حسين بين جانب من جوانب شقاء المعري، وبين استجابته لطاقته الفكرية التي لا يحدها حدٌ، وكأنه لا يصف المعري وحده ، بل يصف ذاته، معه.

 يقول: "لو قد تواضع أبو العلاء في حياته العقلية الفلسفية كما تواضع في سيرته العملية ، ولو قد عرف أبو العلاء لعقله حدَّه، ووقف به عند طاقته، كما عرف لجسمه حدَّه ، وكما وقف بجسمه عند طاقته، لجُنِّبَ من هذه المحنة شرًّا كثيرًا، و لاستراح من عذابٍ أليمٍ".

لكنه، وبالرغم من ذلك، فُتن  بعقل المعري وحريته العقلية أو الفكرية التي أخذ بها نفسه ، يقول: "هذا الرجل الحر الذي لم يعرف المسلمون من يُشبهه فيما أباح لنفسه من حرية عقلية لا يستطيع أن يتمتع بها مسلم في هذا العصر الحديث،عصر الدستور والديموقراطية والحياة النيابيّة "

وأكدت أنه لم تقم علاقة طه حسين بالمعري على مجرد الاشتراك  في العماء ، بل قامت على مرتكزات من التشابه النفسي والفكري . و قد يفسر هذا مشاعر الحب التي يحملها طه حسين لأبي العلاء ، والتي يصفها   في كتابه " مع أبي العلاء في سجنه " قائلًا :

"ما رأيك في أني أحبُ أبا العلاء، وأريد أن أسيرَ معه في هذا الحديث سيرة الصديق الوفي الأمين، فلا  أسوءه  في نفسه، ولا في رأيه، ولا أذهبُ فيما سأعرض له من البحث مذهب أصحاب العلم الذين يُضحون بموضوع بحثهم، فيخضعونه لألوان من التمحيص، وضروب من التحليل، يُحمّلونه من ذلك ما يطيق وما لا يطيق"، ويقول :"أحب أبا العلاء، وأريدُ أن أتحدث عنه حديث الصديق".

كلمات البحث
الأكثر قراءة