لن تضع الحرب الروسية – الأوكرانية أوزارها إلا والعالم على أعتاب نظام عالمي جديد - لن يكون كما كان قبل تلك الحرب المصنوعة بنوايا شيطانية - على المستوى الاقتصادي والسياسي، وعلى خريطة التحالفات الدولية بكل تناقضاتها وتقاطع المصالح فيها.
المتابع لجدول أولويات القضايا العالمية يستطيع بقليل من التدقيق ملاحظة تغير كبير في أولويات العالم؛ حيث تتراجع قضايا وتتقدم أخرى، وحيث تتغير ثوابت لتحل محلها ثوابت أخرى، وحيث تتبدل مواقف دول كانت في قمة التشدد والترصد تجاه دول بمواقف على النقيض تمامًا، والأمثلة على ذلك كثيرة.
يكفي منها موقف تركيا وأردوغان من السعودية ومن ولي العهد، والموقف الآن من قمة التشدد إلى قمة المرونة!
وكذلك موقف جو بايدن الرئيس الأمريكي وها هو يأتي للمنطقة في منتصف يوليو المقبل ليجلس ويجتمع ويتقابل ويبرم الصفقات!
الشاهد.. أن الحرب التي تجري أحداثها المرئية علي الأراضي الأوكرانية.. هي حرب عالمية ثالثة بمفهومها الواسع.. اقتصاديًا وسياسيًا.. وإن كانت لا تزال حربًا تقليدية بين دولتين لم تستخدم فيها أسلحة نووية.
ومع ذلك قال بوتين في منتدى بطرسبرج إن روسيا لن تتوانى عن استخدام سلاحها النووي إذا لزم الأمر دفاعًا عن أمنها القومي ووقف التهديد الذي تواجهه من حلف الناتو بما يعني أن مخاض العالم الجديد بشكله وتحالفاته قارب على الظهور!
في هذا العالم الجديد ما بعد الجائحة والحرب الروسية الأوكرانية.. البقاء للأقوى اقتصاديًا وعسكريًا؛ لأن الاقتصاد يحتاج إلي قوة تحميه وتردع من يفكر في السطو عليه، والبقاء للتحالفات القوية وتكامل الموارد والمصالح خصوصًا بين الدول ذات المشتركات المتعددة والمصالح المتقاربة..
لأن عالم ما بعد الحرب لن يشهد أمنًا أو استقرارًا أو سلامًا إلا لمن يملك القوة في القرار السياسي، وتأمين الغذاء في الاقتصاد خصوصًا بعد تراجع مؤشرات خفض التسلح النووي، والسعي الآن نحو تعظيم وتحديث الترسانات النووية في دول النادي النووي، وتفكير بعض الدول في الغرب والشرق - ليسوا أعضاء في النادي النووي - بالبدء في الحصول على السلاح النووي !
هذا التطور سوف يسمح لإيران وغيرها من الدول ذات النوايا التوسعية بالإصرار على امتلاك السلاح النووي.. ليس للردع فقط ولكن لإمكانية استخدامه تكتيكيا للدفاع عن النفس أولا وتهديد جيرانها ثانيًا إذا لزم الأمر!
فبينما تسعي إيران لابتلاع المنطقة تحت راية القومية الفارسية، وتسعي إسرائيل للسيطرة على المنطقة تحت راية القومية اليهودية ودولة إسرائيل الكبرى، وتحلم تركيا باستعادة دولة الخلافة.. يعيش العرب في منطقة التيه والفرص الضائعة، رغم كل ما يملكونه من ثروات نفطية ومعدنية وطبيعية وبشرية، وعوائد مالية ضخمة، ومشتركات في اللغة والأرض والتاريخ والآلام والآمال يستطيعون بها حماية أنفسهم وحماية ثرواتهم والوقوف صفًا واحدًا في وجه كل مخططات الغرب التي تسعى لتجريف ثروات المنطقة، وتغيير هويتها، وطمس معالم تاريخها وحضارتها، وتحويلها إلى مجرد سوق استهلاكية تشبع فيه البطون، وتخوى فيه العقول، وتسود فيه الغرائز، ويكثر فيه المجون!
لم يكن من قبيل الصدفة أن كل دول المنطقة كانت مستعمرة، وبعد رحيل المستعمر لا تزال كل دول المنطقة مستهدفة بأشكال وطرق مختلفة، والخريطة لا تحتاج إلى إيضاح أو شرح، ولا يوجد في العالم الآن منطقة مستهدفة مثل المنطقة العربية!
لذلك تكون نوبة الصحيان فارقة في عمر ومستقبل منطقتنا العربية، والاستفادة من دروس ونتائج الحرب الروسية - الاوكرانية ضرورة، والاستعداد للتعاطي مع العالم الجديد أمر حتمي لا فكاك منه.
العرب يملكون كل أدوات التكامل الاقتصادي.. الأرض الخصبة.. الماء.. المال.. الأيدي العاملة الرخيصة.. العقول الخبيرة.. التصنيع.. النفط والغاز.. الطاقة.. توطين التكنولوجيا.. القوة العسكرية.. ترسانات السلاح بالمليارات.. وغير ذلك من عناصر التكامل القوية.
السؤال.. إلى متى نظل في منطقة التيه والفرص الضائعة؟ إلى متى تظل أموال العرب لغير العرب وفي بنوك غير بنوك العرب؟ وإلى متي تظل أكثر استثمارات العرب في بلاد غير بلاد العرب؟
عقود طويلة لم ينجح العرب في تحقيق التكامل الاقتصادي أو تحقيق السوق العربية المشتركة أو حتى تحقيق الوحدة العربية شكليًا!
دعوات الوحدة والتكامل والدفاع المشترك ظلت كما هي حبرًا علي ورق، وربما يكون من حسن الطالع أن تدق نتائج الحرب العالمية التي نعيش فصولها الآن ناقوس الخطر وأجراس الانتباه، للبدء في خطوات تشكيل قوة عسكرية مشتركة، كما تم طرحها من الرئيس عبدالفتاح السيسي لحماية المنطقة من مخطط الاستيلاء والتوسع القادم لا محالة، والإسراع في البحث عن صيغة تكامل زراعي وصناعي في المنطقة لتوفير الغذاء ومستلزمات الحياة قبل أن يتحكم الغذاء في القرار السياسي لدول المنطقة!
قد تكون الحرب رغم قسوتها من حسن الطالع ويعلن العرب نوبة صحيان قبل فوات الأوان، خصوصًا ونحن نشهد هذه الأيام حركة واسعة وزيارات متبادلة على مستوى القادة والرؤساء العرب، وقد تكون من سوء الطالع ويعلن العرب أنهم أسرى الفرص الضائعة حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولا، وهذا ما لا نتمناه.