تزوج رسول الله عليه الصلاة والسلام حسب المتفق عليه من جمهور العلماء إحدى عشرة زوجة وهن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن ولم يكن زواج رسول الله لشيء فى نفسه، ولكن كان لتعدد زيجاته حكمة أرادها الله تعالى، ومنها الزواج من الكتابية والبكر والثيب، وكانت السيدة صفية اليهودية بنت حيي بن أخطب خير مثال على تأكيد نبى الله على أن الإسلام أباح الزواج من الكتابيات، وذلك رغم أنه لم يتزوج السيدة صفية إلا بعد أن أسلمت، وفى السطور القادمة سوف نبحث في سيرتها العطرة لنقف على أهم المواقف فى حياتها.
أتتمنين ملك يثرب
هي صفية بنت حيي بن أخطب بن سعية بن ثعلبة بن الخزرج بن النحام بن ناخوم وهى من بني إسرائيل من سبط هارون بن عمران بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، وقد كانت السيدة صفية رضي الله عنها سيدة بني قريظة والنضير وكانت فتاة جميلة شريفة عاقلة ذات حسب ودين، كما كان أبوها حيى بن أخطب زعيمًا لليهود وعالمًا من علمائهم وكان على علم ويقين بأن سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام هو خاتم الأنبياء ومرسل من الله، ولكنه أبى الاعتراف به واستكبر عليه لكونه عربيًا وليس من نسل اليهود، وأمها برة بنت سموأل وهى أخت الصحابى رفاعة بنى سموأل، وبالرغم من أنها تزوجت من رسول الله عليه الصلاة والسلام فى عمر السابعة عشرة إلا أنها رغم صغر سنها تزوجت مرتين قبله، الأولى من سلام بن مشكم وكان فارس قومه ومن كبار شعرائهم ولكنها لم تستمر معه، وتزوجت بعده كنانة بن الربيع الذى قتل فى غزوة خيبر، ورأت صفية وهى متزوجة منه فى منامها وكأن القمر قد أتاها من يثرب فوقع في حجرها وعندما قصت رؤياها على زوجها لطمها وقال لها: أتتمنين ملك يثرب.
إن اخترت الإسلام أمسكتك لنفسي
بعد أن انتصر المسلمون على اليهود فى غزوة خيبر كانت السيدة صفية رضى الله عنها من بين السبايا والأسرى فجاء رجل من الصحابة وقال للنبى عليه الصلاة والسلام إن صفية لا تصح إلا لرسول الله، فهى كريمة من سيدات قومها، فأخذها رسول الله وأعتقها وخيرها ما بين الإسلام أو بقائها على دينها وردها إلى قومها وقال لها: "لم يزل أبوك من أشد اليهود لى عداوة حتى قتله الله تعالى .. يا صفية إن اخترت الإسلام أمسكتك لنفسي وإن اخترت اليهودية فعسى أن أعتقك فتلحقى بقومك" فشرح الله صدرها للإسلام واختارت أن تبقى مع النبى عليه الصلاة والسلام، فألقى عليها الحجاب ثم سارا مع المسلمين، وقبل ذلك جلس النبي مع السيدة صفية وذكر لها مفصلا ما حل به وبالمسلمين من أذى اليهود وأخبرها عما فعله قومها بهما حتى زال همها وحزنها وحتى لا يتزوجها وهى مبغضة له أبدا، كما أنه لم يتزوجها إلا بعد انقضاء عدتها.
غيرة عائشة وحفصة
بعد أن سارت صفية مع رسول الله فى طريق عودتهما إلى المدينة المنورة حتى إذا كانا على بعد ستة أميال من خيبر فأراد أن يعرس بها ولكنها أبت فلم يفرض عليها من الأمر شيئا وتركها بما أرادت وأحسن معاملتها حتى وصلا الصهباء على بعد ستة عشر ميلا من خيبر أطاعته فقال لها: "وما حملك على إبائك حين أردت المنزل الأول" فقالت: "يا رسول الله خشيت عليك قرب اليهود" فأكرمها على موقفها وخوفها عليه، ولما بلغ أمر زواج نبى الله للسيدة عائشة والسيدة حفصة اشتدت الغيرة بهن من ابنة اليهود وقالت عائشة نحن أكرم على رسول الله منها فنحن أزواجه وبنات عمه وغضبن من هذه الزيجة إلا أنهن كن يعلمن أنها بأمر من الله ووراءها سبب لايعلمه إلا رسوله.
زواج الكتابيات
زعمت بعض الكتب اليهودية أن رسول الله تزوج بالسيدة ماريا القبطية والسيدة صفية اليهودية وهما على دينهما، وكلها ادعاءات غير صحيحة، فبالرغم من أن القرآن الكريم أحل الزواج من أهل الكتاب ولم يتضمن فى آية واحدة حديثا عدائيا ضدهم إلا أن محمد عليه الصلاة والسلام تزوج بالسيدة صفية بعد أن شرح الله صدرها للإسلام كما تزوج السيدة ماريا القبطية بعد إسلامها حيث دخلت الإسلام حتى قبل أن تراه ويبقى الأصل فى الزواج من نساء أهل الكتاب عند جمهور المسلمين هو الإباحة فقد أحل الله لأهل الإسلام مؤاكلة أهل الكتاب ومصاهرتهم فى آية واحدة وهى من أواخر ما نزل فى القرآن الكريم عندما قال تعالى فى سورة المائدة (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا أتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذى أخدان) وكانت الحكمة من زواج نبى الله بالسيدة صفية هو التأكيد على أن الإسلام يحفظ للإنسان مكانته ولا ينقص منها بل يزيدها ومن كان شريفا قبل إسلامه يزداد شرفا بالإسلام ومن كان عزيزا ازداد عزة فى الإسلام وكان رسول الله حليما بالسيدة صفية وكان محبا ومكرما لها حتى أنه عندما دخل عليها وهى تبكى فقال: ما يبكيك؟ فأجابته أن حفصة بنت عمر قالت عنى إنى ابنة يهودى، فقال النبى إنك لابنة نبى وإن عمك لنبى وأنك لزوجة نبى ففيم تفخر عليك؟ ثم قال: أتقى الله يا حفصة، وكانت صفية شديدة الحب لرسول الله حتى أنه عندما اجتمع نساء النبى فى مرضه الذى توفى فيه واجتمع إليه نساؤه فقالت صفية: "إنى والله يا نبى الله لوددت أن الذى بك بى" فتغامزن أزواجه بأبصارهن فقال: "مضمضن.. فقلن: من أى شىء؟ فقال من تغامزكن بها، والله إنها لصادقة" وعاشت السيدة صفية بعد وفاة رسول الله حياة زاهدة وازدادت تمسكا بسنته ومنهجه.
خلافها مع أمير المؤمنين
كانت السيدة صفية رضى الله عنها على قدر كبير من الدين والجود والورع، وفى عهد سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه جاءته جارية السيدة صفية لتخبره بأن سيدتها تحب يوم السبت وتصل اليهود فيه، فلما استخبر السيدة صفية عن ذلك الأمر أجابته قائلة: فأما السبت لم أحبه بعد أن أبدلنى الله به بيوم الجمعة، وأما اليهود فأصل رحمى، ثم قالت للجارية ما حملك على ما صنعت؟ فقالت: الشيطان، فقالت لها: إذهبى فأنت حرة، وكان عمر يكرم السيدة صفية لكونه كان على علم بحب رسول الله لها واهتمامه، بها ومن الوقائع التى تؤكد ذلك عندما ذهبت لتزور المصطفى عليه الصلاة والسلام وهو معتكف بالمسجد فى العشر الأواخر من رمضان فتحدثت معه ساعة بعد العشاء ثم قامت فقام معها رسول الله حتى إذا بلغا باب المسجد مر بهما رجلان من الأنصار فسلما عليه فقال لهما: على رسلكما أنها صفية بنت حيي، فقالا سبحان الله يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم وإنى خشيت أن يقذف فى قلوبكما شيئا... وقد توفيت السيدة صفية رضى الله عنها فى زمن خلافة معاوية بن أبى سفيان قى شهر رمضان من سنة خمسين للهجرة النبوية ودفنت بالبقيع.